حسين إبراهيم-
عندما تتحدّث إسرائيل عن تطبيع العلاقات مع عدد من الدول العربية، بخاصة الخليجية، بصفته مكسباً لها، فإن المقصود هو أن يكون هذا التطبيع مجانياً أو شبه مجاني، ولا يكون مشروطاً خصوصاً بحلّ مع الفلسطينيين. أما إذا كان الحلّ الفلسطيني أحد شروطه، فإنه لا يعود يساوي قيمة الحبر الذي كُتب به. ولمن يتذكّر، تتضمّن «المبادرة العربية للسلام» التي كانت سعودية قبل أن تتبنّاها «القمة العربية» في بيروت عام 2002، عرضاً يقضي بتطبيع كلّ الدول العربية مع إسرائيل، مقابل إقامة دولة فلسطينية على 22% من مساحة فلسطين التاريخية فقط، ولكن إسرائيل لم تتردّد لحظة واحدة في الرفض الفوري لهذا العرض. وهي إذا نَظَرت اليوم إلى الخلف، ستجد أنها كانت محقّةً في رفضها؛ فالعرب الراغبون في التطبيع، منذ ذلك الحين، ما فتئوا ينزلون تحت سقف المطلب المذكور كثيراً، كلّما كانت هناك مناسبة لإعادة البحث في «حلول» للصراع العربي - الإسرائيلي. يوحي ما تقدّم بأن التطبيع هو حاجة لبعض الأنظمة العربية، وتحديداً الخليجية، أكثر منه حاجة إسرائيلية. ولذا طبّعت الدول الأربع التي انضمّت إلى «اتفاقات أبراهام»، وهي الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، بلا أيّ مقابل في ما يتعلّق بالفلسطينيين. وحتى الدول التي تبحث عن ثمن، وتعتقد أنها تستطيع استخراج مثل هذا الثمن، كالسعودية التي انخرطت في مسار تطبيع سري، لا علاقة لما تطلبه بفلسطين، وإنما بالتوصّل إلى اتفاق دفاعي مع الولايات المتحدة، يعيد صياغة مفاهيم الحماية الأميركية والغربية لنظام محمد بن سلمان في السنوات المقبلة، ويساعده في أداء دور أكبر يرسمه لنفسه في الإقليم والعالم. وآخر تلك العروض، كان ذلك الذي حمله وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى إسرائيل، قبل يومين، في نهاية جولة على دول عدة في الشرق الأوسط، ومفاده أنّ السعودية ما زالت مهتمة بالتطبيع بعد حرب غزة، مع ملامح مشروع مصمّم لطمأنة العدو إلى أنه لن يكون بعد الحرب مهدّداً من القطاع، عبر تولّي أربع دول عربية هي المملكة والإمارات وقطر والأردن إعادة إعمار غزة بعد الحرب. وإعادة الإعمار تعني هنا «اليوم التالي»، أي إعادة تشكيل القطاع على أساس لا يهدّد العدو. والسفير السعودي في لندن، خالد البندر، أكد بالفعل اهتمام بلاده بالتطبيع بعد الحرب، ولكن ما ذهبت إليه وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، من أن السعودية دعمت إسرائيل في حرب غزة، وبالتالي استحقت رفع الفيتو عن بيعها مقاتلات «يوروفايتر»، يكشف المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الرياض للحصول على ما تريد.
حقن الدم الفلسطيني ووقف الدمار لم يكونا أبداً أولوية على جدول أعمال دول التطبيع، ولا سيما السعودية، التي لم تترك إجراءً إلّا واتخذته لتوضيح موقفها المتقدّم، من تغطية وسائل إعلامها التي تعكس لهفة لتحقيق إسرائيل منجزات على الأرض، إلى منع الدعاء لأطفال غزة في مساجد المملكة. ربما قطر تختلف مع الدول الأخرى المشار إليها في مشروع إعادة إعمار القطاع، في النظرة إلى الآثار الكبيرة لما يجري على شعبية الأنظمة في الخليج، لأنها تتبنى سياسة خارجية تأخذ الحقائق في الحسبان. لكن تصوّر كلّ تلك الدول لما يجب أن تكون عليه العلاقات العربية - الإسرائيلية في المستقبل، لا يختلف كثيراً في ما بينها. أما لماذا يصرّ العرب على التطبيع رغم شلال الدماء في غزة؟ فلأنهم يخافون من انتصار المقاومة أكثر ممّا تخاف منه إسرائيل، ويخشون المخاطرة بهزيمة الأخيرة أكثر ممّا تخشاها حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية. بكلام آخر، إن بعض الأنظمة العربية حريصة على إسرائيل إلى درجة محاولة حماية الكيان من نفسه.
في المقابل، لم تُظهر إسرائيل أيّ اهتمام بالعرض العربي - الأميركي الجديد. ذلك أن إنهاء الحرب على غزة اليوم، يعني انتصار المقاومة الفلسطينية. كما أن تل أبيب، التي اعتادت هزم الجيوش العربية بالجملة، لا تقبل أن تعيش في «ذلّ» الحاجة إلى ترتيبات عربية تحميها من المقاومة الفلسطينية، هذا إذا سلّمنا بأنه يمكن لعرب التطبيع التحكّم في ما ستكون عليه غزة بعد الحرب، عبر تمويل إعادة الإعمار. فذلك يتعارض مع الفلسفة التي قامت عليها الدولة، والتي تقول إن قوتها وحدها الضامنة لبقائها، لا سيما حين تجد نفسها أمام التحدّي الماثل أمامها اليوم والذي لم يسبق لها أن واجهته. بالنتيجة، إسرائيل في مكان آخر. لا بل ما زالت تمنّي النفس بترحيل سكان القطاع إلى خارجه ولو استغرق هذا الأمر وقتاً، رغم المعارضة الأميركية المعلنة لمثل هذا التغيير الجوهري في بنية الشرق الأوسط التي ترعاها أميركا.