(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
في ظلّ العدوان الوحشي على شعبنا الفلسطيني الصامد والتهديدات القائمة على الأماكن الإسلامية الأكثر قداسة وجلال، المسجد الأقصى، يقفز إلى ذهن المتابع السّعودي بالذات مفارقة مأساوية للتاريخ، وهي موقف الملك "فيصل" في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. وهي الحرب التي بدأتها مصر وسورية معًا لتحرير سيناء والجولان، وقدمت لعقل "فيصل" الفرصة لإثبات قدراته الكبيرة وترجمة طموحات السّعودية لمستقبلها وضمان أمنها ورخائها، في آن.
لم تكن الرياض طرفًا أساسيًا في الحرب؛ بل كانت الساحات هناك بعيدة على مرتفعات الجولان وفي صحاري سيناء المصرية، لكن لأن الحاكم دخل "لحظة الصراع" وفي جيبه خطة شاملة للتحرك وكشف حساب للموقف والتكلفة، وكان يريد الوصول بالمملكة إلى صورة رسمها بدأب وإصرار، وحاول منذ اللحظة الأولى تطبيقها على الجميع، فقد خرجت "كل الأطراف" خاسرة من الحرب، إلا المملكة التي تعدّ تقريبًا هي الناجح الوحيد الذي حقق لائحة أهدافه كاملة بين الجميع وعلى حسابهم.
بنظرة عربية، تعرف وتقدر موقف الشهامة والجرأة، فقد أصبح "فيصل" في عيون الكثيرين بطلًا، فوجئ بمحنة تعصف بأمته فوقف يواجهها بكل ما يملك، معرضًا نفسه ومصالحه وتحالفاته، وحتى موارده النفطية، لخطر كبير وداهم.. لكنّه بقي مستشعرًا أو رافضًا للوقوف على الحياد خلال معركة قائمة، فقد حفظته الذاكرة على أنه الرجل الذي قطع النفط عن أميركا في عزّ جبروتها، وحدّ من التأييد والدعم المطلق للكيان عسكريًا وسياسيًا في أوروبا الغربية واليابان، هكذا خرج الرجل بصورة "البطل القومي" لأمة مأزومة.
بالنسبة إلى التحليل البراغماتي –فلسفة الذرائع أو النفعية- فإنّ "فيصل" قد قرر أنّ اللحظة المناسبة لكسر احتكار الغرب لتسعير النفط جاءت في عزّ الحرب المشتعلة، والمشهد العالمي على القمة لم يكن مهيئًا أو جاهزًا بأكثر من هذه الدرجة العجيبة من توافق الأزمات. فالرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون كان غارقًا بالفعل في فضيحة "ووترغيت" التي أفقدته نائبه "سبيرو أغنيو" بطريقة مخزية. وكانت حرب فيتنام ما تزال جرحًا مفتوحًا ينزف فيه الأميركي هيبته وقدرته وصورته الذهنية، وهي بالتأكيد ستجعله أضعف مع ضربة نفط، سيبتلعها لا محالة، في ظل "حرب باردة" مشتعلة مع قطب آخر هو الاتحاد السوفياتي السابق، وكان هذا الأخير ما يزال واقفًا بكل قوة مستعدًا لاستثمار أي فشل أميركي أو تراجع.
مع النجاح الأولي للجيشين المصري والسوري، في الضربة المفاجأة الواسعة، بدأت فكرة قطع البترول العربي عن الغرب المؤيد للكيان تتحول من حلم بعيد إلى خاطر يومي ثم إلى قرار ثقيل مفروض، مع اندفاع الكويت والجزائر وليبيا لاتخاذ هذا القرار الإستراتيجي، والذي كان أمل العالم العربي الأخير في تلك الظروف التي وجدوا أنفسهم فيها ضد عالم بأكمله تداعى عليهم، وهو يوشك على أن ينهش أكبادهم وقلوبهم.
في هذه اللحظات التاريخية المحمّلة بشحنات العاطفة والكبرياء والأماني العظمى التي تعلقت به، قرر "فيصل" أن الوقت قد حان لإلقاء كلمته، وبالفعل اتخذت الدول المنتجة للنفط قرارين: أولهما تخفيض الإنتاج بشكل تدريجي، ثم الأهم: وضع الدول المنتجة لحدود سعرية جديدة للبترول، واسترداد قرار الاستعمار بحق المستهلك وحده في تحديد السعر!،
هنا قفز سعر البترول بشكل قياسي، في هذه اللحظة بالذات نجح القرار فكرًا وسياسة وتخطيطًا وتوقيتًا، وانفلتت أسعار النفط من 2.90 دولارًا للبرميل عشية بداية الحرب، إلى 11.65 دولارًا للبرميل في كانون الأول/ ديسمبر 1973، أي بعد أقل من 8 أسابيع فقط، ووجدت الدول الغربية نفسها في موقف فُرض عليها أن تخفف من مواقفها العدوانية، وفرض على واشنطن أن تقبل بصيغة "التعاقد الجديد بالأسعار الجديدة".
اليوم لم يكن ولي العهد الأمير "محمّد بن سلمان" مدعوًا إلى وضع كشف حساب فور وقوع المعركة في فلسطين، لمعرفة ما الذي يجب عليه فعله.. أولًا كان يتوجب عليه أن يسحب عرض التطبيع المجاني الموضوع فوق الطاولة، ثم إنّ سلاح التلويح بالنفط في ظل العقوبات على روسيا –أحد أكبر المنتجين- كان كافيًا وحده، لضمان أن يوقف هذا الشلال الهادر من دماء وكرامة بلده وأمته، أن يأخذ بالعقل لا بالمغامرة موقفًا لله وللدين وللإنسانية والشرف، حتى هذا الموقف عجزت البلادة وفقر الخيال والروح غربية الهوى أن تراه..!!
السعودية خسرت على مستوى سمعتها أكثر ممّا قد تسمح لها الأيام بتعويضه، والقائد الذي يتقدم في عكس طريق الأماني والأحلام المبدئية لشعبه ويتصرف ضد إنتمائه لن يحقق في النهاية إلا ما وصلنا إليه، ولسوء حظنا فإنّ المقدور من العجز سيطبع المستقبل على صورته!
... ويا للعار !!