(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
في الواقع؛ إنّ وضع مجسّم للواقع العربي، اليوم، بعد 126 يومًا من جولة الصراع العربي- الصهيوني الأحدث "طوفان الأقصى" تصبح عملية لازمة وضرورية لمحاولة رسم نموذج بالكتل الصلبة للمواقف الشامخة وفراغات الغياب والسقوط والمساحات الجغرافية والتضاريس للأرض التي تجري معركتنا عليها وفيها، ثم محاولة فهم هذا المجال الذي تمضي حركتنا العامة في ظلاله وتحت شروطه، أمام وجدان أمة تحتاج – وبشدة- كي تصل إلى الحقيقة وأن تعرفها بطريقة أن تراها وتلمسها وتعاينها، والمعرفة هي أول عناصر الإرادة الإنسانية الفاعلة، أو التي تريد أن تكون فاعلة.
الحقيقة الأولى للواقع العربي، في هذه اللحظة بالذات، أننا بدأنا فصول قصة طويلة قبل 75 عامًا، في نكبة فلسطين 1948، ومن وقتها إلى اليوم دخل عنصر جديد إلى الأرض العربية، حول تهديد العدو الخارجي الذي كان على الدوام بعيدًا إلى جزء يومي من تفاصيل الحياة العربية، وإلى خطر مؤكد وقائم وقريب جدًا.
هذا الخطر لا يكتفي بزحف الجيوش التقليدية القديمة، زاعق الخطوات الذي يثير التنبيه ويدق أجراس الإنذار، لكنه أشبه بثعبان يرقد في الرمل على جانبي الطريق، ينقض ويقتل بسرعة مخيفة، قبل حتى أن نستعدّ، وهو يسبب نزيفًا داخليًا لجسد الأمة العربية كلها، حتى وإن ظل كامنًا في مخبئه، ومن دون أن يضرب بأنيابه أو يستهلك سمومه.
بداية، إنّ كل من يروّج أو يتبنى طريق التطبيع مع العدو، يستند إلى ما يحاول وصفه بـ "أرباح وطنية" من السلام المزعوم، وأن المملكة حين تقرّر التخلي بإرادتها عن الثوابت الدينية والقومية والوطنية، وتقبل بالكامل أن تدخل العصر الأميركي الجديد الذي يُرسم للمنطقة ويوضع لها، فإنّ لها في النهاية أن تنتظر جزءًا –ولو ضئيلًا- من المكاسب، حين تأتي لحظة توزيعها، والخبرة التاريخية في ما يتعلّق بواشنطن تقول ببساطة إن الجميع يدفع الفواتير، بينما يخرج آخر الطريق مفلسًا، وربما مدينًا أيضًا.
ما الذي تريده أو تخطط له المملكة العربية السعودية أن تصل به مع القضية الفلسطينية؟
الإجابة الحقيقية بغير تزييف ولا تلوين وردت على لسان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء محمّد بن سلمان، نصًا وبالكامل، في لقائه مع محطة "فوكس نيوز" الأميركية في الحادي والعشرين من أيلول/ سبتمبر الماضي. وقبل نحو أسبوعين فقط من انفجار عملية "طوفان الأقصى"، قال: "إنّ حلّ القضية الفلسطينية أساسي في أي تطبيع للعلاقات مع الكيان، وإنّ السعودية مهتمة بحصول الفلسطينيين "على حياة أفضل"، وأنها مستمرة في جهودها مع جميع الأطراف "لرفع معاناة الفلسطينيين".
الموقف أو المبدأ الذي تحدث به ولي العهد لا يقبل أي نقد عابر، هو بذاته يقول إنّ القضية الدينية المقدسة قد تحولت إلى قضية تصلح فيها المساعدات الإغاثية والإنسانية و"تقليل المعاناة" بالتعاون مع الأطراف الأخرى!
التطبيع كان الثمن الذي ارتضى ولي العهد دفعه مقابل نقطتين حسبهما لصالحه، أولا: برنامج نووي سعودي سيستطيع معه أن يروّج إنجازًا كبيرًا في طريقه إلى الحكم، والثاني هو ضمان حماية أميركية أمنية/ عسكرية بعيدة المدى، تؤمّن له جلوسه على هذا العرش. وهي – حتى بمنطق تاجر بسيط- صفقة خاسرة، سيدفع فيها الكثير جدًا، وأرباحها الحقيقية تقترب من الصفر، ثم هي في النهاية مجرد مشاريع تعدّ بمسكب بعيد جدًا، وربما غير مرئي، ويمكن ألا يأتي من الأصل.
يمكن فهم التصريحات السعودية التي تأتي مع كل زيارة لمسؤول أميركي أو غربي من هذا المنظور وحده، المملكة قد قررت التطبيع، وما حشر قضية فلسطين في متن خطاب التطبيع مع العدو إلا محاولة للتجمل والنفاق، فحتى معاناة الفلسطيني، اليوم، في غزة، وخصوصًا منطقة رفح المهددة بين ساعة وأخرى بعملية عسكرية جنونية، في رقعة ضيقة من الأرض ينحشر عليها مليون ونصف المليون إنسان، والتي تبدو الحياة قبلها وكأنها رفاهية، لا تحتاج إلى جهد سعودي للتدخل والمنع.
قبل أسبوع واحد، كشفت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "إسكوا"، في دراسة بعنوان "الحرب على غزة.. 100 يوم الأكثر دموية في القرن الـ21"، أن عدوان الكيان الغاشم على المدينة الصغيرة قد تجاوز في ضحاياه أي صراع آخر في القرن الجديد. وقال التقرير المخيف إنه: "في أول 100 يوم فقط استشهد أكثر من شخص واحد من بين كل 100 شخص من سكان غزة، وكذلك استشهد طفل واحد من بين كل 85 طفلاً، في غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وهو أعلى معدل مقارنة بالنزاعات الكبرى الأخيرة في القرن الحالي". وتبدو أرقام الصراعات والحروب الأخرى جوار مأساة غزة الجارية مجرد صور فوتوغرافية باهتة، وبعد، فإنّ الكارثة الوشيكة في رفح قد تقع هي الأخرى، مع كثافة سكانية مرعبة، توحي مقدمًا بحجم الخطر، بعد هذا كله، هل ما تزال "التجارة بالمواقف" هي الشعار الرسمي؟!