عمان اليوم-
نبه سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة إلى خطورة سيطرة الرغبات المادية على حياة الإنسان فقال: «إذا استحكمت هذه الرغبة في النفس استعصت على العلاج وتعذر استئصالها»، موضحًا أن الله سبحانه وتعالى جعل لذلك علاجًا في صميم الدين، من خلال الأمر بالإنفاق في سبيل الله من صدقة وزكاة، وفي سائر النفقات التي يؤمر المسلم بأدائها.
وحذر سماحته من «علماء السوء» الذين يعملون على تزييف الحق، وتزيين الباطل فقال: «إن من المصائب الكبرى على الناس أن يفسد شأن العلماء وأن ينحرفوا عن الصراط السوي، يزينون الباطل بالأقاويل البراقة التي يضر الناس لمعانُها فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل». وأوضح أن العالم إذا لم يتق الله تعالى في فتواه ووعظه، ونصحه وعمله؛ كان فتنة على الأمة والعياذ بالله. جاء ذلك في محاضرة لسماحته بعنوان: «رسالة الإنسان في الحياة» فإلى ما جاء في الجزء الثاني من المحاضرة…
وقال سماحته: إن الشباب من أعظم النعم؛ لأنه ربيع العمر وزهرته ونضارته، والإنسان يشعر بمقدار نعمة الشباب عندما يتجاوز هذه المرحلة؛ فالناس الذين يتجاوزون مرحلة الشباب يندبون شبابهم ويبكون عليه؛ لأنهم يعلمون بأنه لا يرجع كما لا يعود الميت إلى الدنيا.
والشيب عندما يأتي للإنسان ويولي الشباب يظل هذا الشيب وفيا له، ملازما له إلى أن يرحل من الدنيا بصحبته بخلاف الشباب فإنه سرعان ما ينتهي وذلك يقول التهامي في قصيدته الرائعة البليغة:
شيئان ينقشعان أول وهلة *** ظل الشباب وخلة الأشرار
لا حبذا الشيب الوفي وحبذا *** ظل الشباب الخائن الغدار
وطري من الدنيا الشباب وروقه *** فإذا انقضى فقد انقضت أوطاري
قصرت مسافته وما حسناته *** عندي ولا آلاؤه بقصار
وأضاف: إن الشباب مرحلة الفتوة ومرحلة القوة ومرحلة الطموح في عمر الإنسان؛ ولذلك يسأل عنه العبد عن شبابه فيم أبلاه.
المال مال الله .. والإنسان مستخلف
وقال سماحة الشيخ الخليلي: إن من الأسئلة يُسأل عنه العبد يوم القيامة، والتي وردت في الحديث النبوي: عن المال: من أين اكتسبه ؟ وفيمَ أنفقه؟ وقال سماحته موضحا: إن المال الذي بيد الإنسان ليس ماله فيتصرف فيه كيفما يشاء؛ إنما هو مال الله سبحانه وتعالى يقول الله عز وجل «وَآَتُوهُم مِّن مّالِ اللّهِ الّذِي آَتَاكُمْ» ويقول سبحانه «وَأَنفِقُوا مِمّا جَعَلَكم مّستَخْلَفِينَ فِيهِ» فالمال الذي يؤتاه الإنسان هو ما الله وإنما العبد مستخلف فيه مؤتمن عليه، وما دام الإنسان ليس أصيلا في هذا المال، وإنما هو خليفة فعليه أن يتصرف فيه تصرف الخليفة الذي لا يصدر فيما يفعله إلا عن أمر مستخلفه.
وأضاف: إن النفس البشرية جبلت على حب المال، والله تبارك وتعالى يقول: «وَتحِبّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا» ويقول عز من قائل: «وَإِنّهُ لِحُب الْخَيرِ لَشدِيدٌ» ومن شأن الإسلام وهو دين الفطرة ألا يتصادم مع الفطرة؛ بل يوجه هذه الفطرة الوجهة السليمة فلا يمنع الإنسان أن يكسب المال ولكن عليه أن يتحرى في اكتسابه له ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فليس للإنسان أن يكسب المال من أي طريق كان، من النهب والسلب أو من الربا أو من الغش أو الخداع، أو نحو ذلك؛ بل عليه أن يتحرى مرضاة الله تبارك وتعالى، وقد جاء الوعيد الشديد في الأموال في كتاب الله وعلى لسان رسوله .. فالله تبارك وتعالى يقول :«وَلا تَأْكلُوا أَمْوَلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلى الحُكامِ لِتَأْكلُوا فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَلِ النّاسِ بِالإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ» ويقول سبحانه: «يَا أَيّهَا الّذِينَ آَمَنُوا لا تَأْكلُوا أَمْوَلَكُم بَيْنَكم بِالْبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسكُمْ إِنّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَ مَن يَفْعَلْ ذَلِك عُدْوَاناً وَظلْماً فَسوْف نُصلِيهِ نَاراً وَكانَ ذَلِك عَلى اللّهِ يَسِيراً» ويقول الله في أكل أموال اليتامى ..«إنّ الّذِينَ يَأْكلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَامَى ظلْماً إِنّمَا يَأْكلُونَ في بُطونِهِمْ نَاراً وَ سيَصلَوْنَ سعِيراً» ويقول الله تبارك وتعالى في الربا: (الّذِينَ يَأْكلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطهُ الشيْطانُ مِنَ الْمَس ذَلِك بِأَنّهُمْ قَالُوا إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَ أَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظةٌ مِّن رّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سلَف وَ أَمْرُهُ إِلى اللّهِ وَ مَنْ عَادَ فَأُولَئك أَصحَب النّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ)، ويقول سبحانه: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آَمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ * فَإِن لّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَ رَسولِهِ وَ إِن تُبْتُمْ فَلَكمْ رُؤوس أَمْوَلِكمْ لا تَظلِمُونَ وَلا تُظلَمُونَ).
تحري الحلال
وأوضح سماحة الشيخ المفتي أن على الإنسان أن يتحرى الحلال من الطعام والشراب، فقال: لقد كان الصحابة يتورعون كل التورع عن أن يلج في جوف أحدهم طعام إلا بعد أن يتأكد من حله، وكان أحدهم يخرج من بيته فتقف له امرأته على باب البيت وتقول له: اتق الله فينا لا تطعمنا الحرام فإن الجوع أحب إلينا من الشبع من الحرام، فكيف بالإنسان الذي لا يبالي من أي باب يدخل عليه الدرهم والدينار لا يبالي من أي باب يدخله الله تعالى النار وما أصدق قول الشاعر:
النار آخر دينار نطقت به *** والهم آخر هذا الدرهم الجاري
والمرء بينهما إن لم يكن ورعا *** ماذا يكابد بين الهم والنار
مالُه.. فيم أنفقه؟
وأوضح سماحة الشيخ أحمد الخليلي أنه كما أن الإنسان مسؤول عن المال من أين اكتسبه؛ فإنه مسؤول عن الجانب الآخر الذي يتعلق بالمال وهو: فيم أنفقه؟ ذلك لأن الإنسان مؤتمن على هذا المال ومستخلف فيه، وليس له أن يتصرف فيه كيفما يمليه عليه هواه، وكما ترغب نفسه، إنما عليه أن يتحرى مرضاته سبحانه وتعالى في اكتسابه، فالمال مال الله، والعبد مسؤول عنه بين يدي الله تعالى، وقد أمر الله تعالى بالإنفاق وحظ عليه ولكنه أمر به في مراضيه، فقد أمر بالإنفاق على العيال وهذه استجابة لنداء الفطرة وما ينفقه الإنسان على عياله ثياب عليه كما جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم: إن درهما ينفقه الإنسان على عياله ودرهما ينفقه في سبيل الله ودرهما يعطيه مسكينا يؤجر على ما ينفقه على عياله ما دام يكفهم بذلك عن التطاول إلى الحرام ويحول بذلك بينهم وبين الوقوع في الآثام وأمر الله سبحانه وتعالى بإنفاق خارج حدود العيال من هذا المال.
وأوضح الشيخ الخليلي أن الإنفاق المأمور به ينقسم إلى قسمين: إنفاق منظم، وإنفاق غير منظم، أما الإنفاق المنظم فهو الزكاة التي شرعها الله سبحانه وتعالى في أصناف مخصوصة من المال وهي الأصناف التي تدعو إليها حاجة هذه الحياة، وتخرج منها بقدر مخصوص إذا بلغت قدرًا مخصوصًا، وفي زمان مخصوص أي بعد أن يحول عليها الحول .. أما الإنفاق الآخر وهو مطلق الإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين وفي المشروعات الخيرية وهذا الأنفاق لا يتقيد بزمان، ولا يتقيد بقدر بل تراعى فيه الظروف والأحوال وهو حق يتعلق بالمال كما يدل عليه قول الله تعالى (لّيْس الْبرّ أَن تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لَكِنّ الْبرّ مَنْ آَمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلَائكةِ وَالْكِتَبِ وَالنّبِيِّينَ وَآَتى الْمَالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبى وَالْيَتَامَى وَالْمَسكِينَ وَابْنَ السبِيلِ وَالسائلِينَ وَفي الرِّقَابِ).
وأكد سماحته أن هذه حقوق في المال من غير الزكاة، وذلك بدليل قوله تعالى من بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والعطف مغاير للمعطوف عليه -كما هو معلوم- وقد جاء في حديث ـوإن كان ضعيف السندـ: «إن في المال حقا سوى الزكاة» وضعف سنده لا يمنع من الاستدلال به ما دام يوافق كل الموافقة هذه الآية القرآنية التي تدل دلالة واضحة على أن في المال حقًا من غير الزكاة المفروضة.
وأضاف سماحته: إن الإنفاق الذي أمر الله تعالى به هو علاج للرغبة الملحة في المال؛ ذلك أن المال شهوة دفينة في النفس، وقد جلبت النفوس على حب المال.
الإنفاق علاج للطبيعة المادية
وحذر الشيخ الخليلي من أن تستحكم الرغبات المادية في حياة الإنسان فقال: إذا استحكمت هذه الرغبة في النفس استعصت على العلاج وتعذر استئصالها ولكن الله تبارك وتعالى جعل لها علاجا في صميم الدين ـ في صميم العبادات جعل لها علاجًا في الزكاة المفروضة وجعل لها علاجا في سائر النفقات التي ينفقها الإنسان عن طواعية؛ رغبة فيما عند الله تبارك وتعالى؛ فشهوة المال إذا استحكمت في النفس قد تؤدي بالإنسان إلى الوطء على جميع القيم الإنسانية وعدم المبالاة بالصلة بينه وبين أقرب قريب إليه فكم من إنسان يستعجل موت قريبه فيتسبب لموته بالسم أو بالسلاح لأجل محاولته أن يستأثر بماله وكم من إنسان يسطو على السابلة قاطعا الطريق من أجل إشباع شهوته في المال، فالرغبة من الاستكثار من المال تؤدي بالإنسان إلى مثل هذه الأعمال بحيث يطأ على جميع القيم الإنسانية فضلاً عما يكون من تحايل على الناس ومحاولة غشهم ومحاولة الوصول إلى ثرواتهم بأية طريقة من الطرائق، هذا كله عن الرغبة الملحة في المال فإذا عولجت هذه الرغبة بالإنفاق واعتاد الإنسان تحري مرضاة الله تبارك وتعالى في اكتساب المال؛ لأنه يشعر أن هذا المال الذي يكتسبه هو مال الله، والله تعالى يحاسبه عليه وأنه بحاجة إلى أن ينفقه في مرضاة الله تبارك وتعالى.
العلم نور من الله
وأضاف الشيخ الخليلي: إن السؤال الخامس الذي يسأله الإنسان هو سؤال عن العلم؛ لأن العلم هو نور من الله، فان استبصر به العبد كان حجةً له فيما بينه وبين ربه، وإن طمس هذا النور وتعامى عن الطريق السوي الذي ينيره له وسلك العشواء متخبطا فيها فإنه -والعياذ بالله- يكون حجة عليه بدلاً من أن يكون حجة له ـوالعبد إن علم علمًا فتصرف مع علمه تصرف الجاهل كان -والعياذ بالله- أعظم مسؤولية بين يدي الله تعالى بالجهل. فإن الجاهل عصى الله تعالى بالجهل والعالم الذي يعصي الله تعالى تبارك وتعالى يعصيه بعلم؛ فهو أشد عنادًا من الجهل؛ لأنه علم ماذا يأتي وماذا يذر مع ذلك أبى إلا أن يركب مثنى عشواء.
ويل لمن لم يعمل بعلمه
وقال سماحته: إن من شأن العالم أن تقتدي به العامة؛ فإذا أخطأ الطريق الحق ضل بضلاله خلق كثير، ولذلك قيل مثل العالم كمثل السفينة تغرق ويغرق معها كثير، فالناس لا يتأثرون بالعامي الجاهل ولكنهم يتأثرون بالعالم تأثيرًا كبيرًا، ومن أجل ذلك روي: إن فساد هذه الأمة من رجلين؛ من عالم منتهك وجاهل متنسك؛ فالعالم المنتهك الذي لا يبالي بالذي يأتيه، وبالذي يذره ينظر الناس إلى علمه فيقولون: بأن ما يفعله لو لم يكن جائزًا لما فعله، والجاهل المتنسك يغر الناس بنسكه فيقتدون بفعله ولا يبالون بجهله إذ يقولون لو لم يعلم أن ما يأتيه صوابًا لما أتاه.
فساد كبير عالم متنهك *** وأعظم منه جاهل متنسك
هما فتنة في العالمين عظيمة *** لمن بهما في دينه يتمسك
ولذلك فإن العبد كان مسؤولا عن علمه يوم القيامة؛ فإنه إذا لم يعمل بعلمه كان علمه وبالا عليه كما يكون وبالا على الناس الذين يقتدون به.
وشدد سماحة الشيخ على علماء السوء الذين يزينون الباطل، فقال: إن من المصائب الكبرى على الناس أن يفسد شأن علمائهم وأن ينحرفوا عن الصراط السوي، يزينون الباطل بالأقاويل البراقة التي يضر الناس لمعانُها فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل، كما وقع ذلك في أهل الكتاب فإن الله تبارك وتعالى قال في أهل الكتاب (اتخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)، وعندما أسلم عدي بن حاتم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية. فقال له يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم ، فقال له: أليسوا قد أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، قال له نعم .قال فتلك عبادتهم إياهم.
وأضاف: إن العالم إذا لم يتق الله تعالى في فتواه ولم يتق الله تعالى في وعظه، ولم يتق الله تعالى في نصحه ولم يتق الله تعالى في عمله كان فتنة على الأمة والعياذ بالله؛ فمن هنا كان العبد يوم القيامة يسأل سؤالا خاصا عن عمله ماذا عمل فيما علم. فالمسؤولية يوم القيامة مسؤولية عظيمة والهول كبير والإنسان الذي أساء في عمره وقامت حجة الله تبارك وتعالى عليه فما عليه إلا أن يتوب إلى الله تبارك وتعالى توبة نصوحا ويتوب إلى رشده ويحرص على رضوانه عز وجل متجنبا لكل ما يؤدي به إلى سخطه.