طه العاني - الخليج أونلاين-
يضم الدين الإسلامي مجموعة من التيارات والمذاهب التي انبثقت عبر تاريخه الطويل، وتتفرّع من مصادر دينية مشتركة، وتتميز بتفسيرات وآفاق فقهية متنوعة تعكس التنوع الثقافي والتاريخي للمجتمعات التي نشأت فيها.
كما يعود اختلاف هذه المذاهب إلى جذور تاريخية وسياقات اجتماعية وسياسية متنوعة، حيث تشمل بعضها الفروق البسيطة في الفقه والعقيدة، في حين تميل الأخرى إلى الاختلافات الأعمق في المفاهيم والممارسات الدينية.
لبناء الجسور
مع تطور العولمة وزيادة التواصل بين الثقافات والمجتمعات المختلفة، أصبح بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية ضرورة ملحة لتعزيز الوحدة والتفاهم والتعايش السلمي بين أتباع هذه المذاهب.
ويعتبر فهم التنوع واحترام الآراء المختلفة في الإسلام أساساً لتعزيز السلام والتعايش السلمي في المجتمعات الإسلامية والعالم بشكل عام.
وانطلاقاً من هذه المفاهيم، انطلقت أعمال المؤتمر الدولي "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية"، في 17 مارس الجاري، في مكة المكرمة، الذي تنظمه رابطة العالم الإسلامي بمشاركة واسعة من ممثلي المذاهب والطوائف الإسلامية.
وجمع المؤتمر، الذي اختتمت أعماله في 18 مارس الجاري، نخبة من العلماء والمفكرين، برئاسة الأمين العام لمنظمة التعاون حسين إبراهيم طه، ومفتي عام السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، إلى جانب 300 شخصية إسلامية بارزة من مصر والعراق وإيران وتركيا وباكستان، وغيرها من الدول.
وناقش المؤتمر مختلف القضايا ذات الصلة بالتعاون بين المذاهب الإسلامية، حيث تطرق العلماء والمفكرون إلى تعزيز المشتركات الجامعة وتعزيز مبادئ التنوع المذهبي وأدب الاختلاف.
وبدأ المؤتمر أعماله بكلمة ترحيبية للشيخ عبد العزيز آل الشيخ، حيث أكد أن الدين الإسلامي هو دين الاجتماع والتلاحم، الذي أمر بالتآلف وتعزيز وحدة الكلمة والصف، محذراً بشدة من الفرقة والاختلاف.
وأشار آل الشيخ إلى أن السنة النبوية مليئة بالتوجيهات لتعزيز وحدة المسلمين وتوحيدهم، ولرفع ما يمكن أن يثير الخصومة والبغضاء بينهم، مؤكداً بذلك أهمية التمسك بروح الوحدة والتعاون بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، من أجل تحقيق المصالح العامة وتعزيز السلام والتآخي بين الناس.
وأضاف آل الشيخ: "إننا حين نؤكد هذا الأصل العظيم الذي جاء به الإسلام، الداعي إلى بذل كل سبب يؤلف بين المسلمين، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يفرّق بينهم؛ فإننا نتوجه بهذا الخطاب ابتداءً إلى علمائهم؛ إذ يرى المسلمون فيهم مصدر الفتوى والتوجيه الديني".
ولفت إلى أنه "متى كان العالم بمستوى من أدب الحوار، وحُسن القصد فيه؛ كان المسلمون على هذا المستوى من الشعور الأخوي، والتقارب القلبي؛ فإن المسلمين عامةً يرون في علمائهم القدوة والأسوة".
من جهته أشار الأمين العام للرابطة ورئيس هيئة علماء المسلمين الشيخ محمد العيسى، إلى أن المؤتمر، بعلمائه الراسخين من مختلف التنوع المذهبي في العالم الإسلامي، "جاء ليؤكد أن الأمة الإسلامية بخير، وأن علماءها الربانيين هم القدوات الحسنة والمثل الشرعي".
وأثنى العيسى على فهم علماء الأمة الثاقب وحكمتهم العميقة، مؤكداً أن التنوع المذهبي يتطلب استيعاب العديد من الأمور الأساسية، ولا بد للمسلمين من الاعتراف بأن الاختلاف والتنوع في الدين جزء من سنن الله تعالى، وأن البحث عن الحق والتمسك به ينبغي أن يكون هم كل مسلم.
وأكد أن المذاهب الإسلامية تحتاج بشدة إلى وحدة وتماسك يجمعها، ويضمن عدم تفريقها، وهذا المشترك الإسلامي الجامع يجب أن يكون قاعدة للتعايش والتعاون بين المسلمين، ولم يكن هناك مشترك أكثر وضوحاً من مبادئ الإسلام الأساسية مثل شهادة التوحيد وأركان الإسلام وقواعده الثابتة.
كيان واحد
ويعتقد الباحث حارث سيف بأن العالم الإسلامي لا يحتاج إلى أن تكون هناك جسور بين مذاهبه الإسلامية؛ لأن هذه المذاهب هي كيان واحد بالأساس، وتنبثق عن الدين الإسلامي الحنيف، "ولكن للأسف فإن تلك المذاهب سرقتها تيارات سياسية، فأصبحت مذاهب سياسية أكثر منها تيارات دينية".
ويبين خلال حديثه لـ"الخليج أونلاين" أن العالم الإسلامي اليوم "في أمسّ الحاجة إلى الوحدة وتقوية الأواصر بين مختلف المذاهب والتيارات الفكرية، فضلاً عن النهوض بالأمة الإسلامية، خاصة فيما تعانيه الأمة من اضطهاد وتمزق وتكالب الدول العظمى عليها، والوضع الخطير الذي تعايشه القضية الفلسطينية".
وأشار إلى أن "العالم الإسلامي يتمركز في أهم موقع في العالم، حيث إنه يتحكم بممراته التجارية، سواء البرية أو البحرية أو الجوية، ويمتلك العديد من الموارد الطبيعية".
ويلفت سيف إلى أن العالم الإسلامي يستند إلى تاريخ عميق ومبادئ قيمة، وأن "هذه المقومات تجعل العديد من القوى العالمية تسعى لتدميره؛ وأفضل طريقة لتدمير العالم الإسلامي هي تدميره من الداخل، وذلك من خلال تعزيز نزعات التشرذم والاختلاف".
دعوات وأهداف
يهدف المؤتمر إلى مواجهة خطابات وشعارات وممارسات التطرف الطائفي، الذي يُحرّض على إشعال الصراعات والصدامات المذهبية، مما يتنافى مع قيم الأخوة الإسلامية ويسيء لسمعة الإسلام والمسلمين.
ويؤكد احترام الخصوصيات المذهبية وعدم المساس بها تحت أي ذريعة، ورفض أي أسلوب من أساليب الإساءة أو الازدراء للمذاهب الإسلامية.
ويدعو إلى التعامل بسمت الإسلام الرفيع وتبادل الاحترام بين أتباع الدين الواحد، كما يتضمن المؤتمر وضع خريطة طريق تُسهم في تعزيز الوعي الإسلامي، وذلك من خلال إصدار "وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية".
ولا يُعتبر المؤتمر الدولي "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" الأول من نوعه الذي تُنظِّمه المملكة لتعزيز التواصل وتعميق التعايش والتعاون بين المذاهب المختلفة، بل إن السعودية قامت بترسيخ ثقافة دولية ذات تأثيرات واسعة النطاق لتعزيز التآخي بين الأديان وليس فقط المذاهب الإسلامية.
فقد كانت المملكة من الدول الرائدة في مكافحة التطرف ونبذ الفكر الطائفي والانقسامات الدينية والعقائدية، كما أنها قادت جهوداً لمكافحة العنصرية بجميع أشكالها.
وعلى الصعيد الداخلي، شرت المملكة قوانين تحظر أي مظاهر من مظاهر التمييز والتحريض ونشر الفتن، ورفضت أي تصرف يمت بالازدراء أو الإساءة للمذاهب الإسلامية.
وأكد الباحث الإسلامي السعودي محمد علي الحسيني خلال حديثه مع صحيفة "عكاظ"، في 19 مارس الجاري، أهمية بناء جسور التواصل والحوار المباشر بين المذاهب الإسلامية، خصوصاً أن المؤتمر أتى في ظرف حسّاس وخطير تمر به الأمة الإسلامية، بما تشهده من فرقة ومنازعات.
وأشار الحسيني إلى أن المؤتمر جاء لتفعيل مخرجات وثيقة مكة المكرمة باعتبارها العلاج الوحيد والأساسي لما تواجهه الأمة من مصاعب وتحديات على كل المستويات الداخلية والخارجية.
ويبين الباحث الإسلامي أن العودة إلى جوهر الدين الإسلامي القائم على منهج الوسطية والاعتدال هو خير سبيل لإعادة اللحمة بين المسلمين وتوحيد صفوفهم دفاعاً عن الدين الحنيف، والدعوة للإيمان والاعتدال والانفتاح والحوار والتقارب.
مخرجات مهمة
خرج مؤتمر مكة المكرمة بوثيقة هامة تهدف إلى بناء جسور التواصل والتعاون بين المذاهب الإسلامية، حيث ضمت هذه الوثيقة 28 بنداً يركز معظمها على قيم التسامح والتعايش بين مختلف المذاهب.
وقد تعهد المشاركون في المؤتمر بالالتزام بمضامين هذه الوثيقة، والعمل على تعزيزها وترسيخها في أنشطتهم العلمية ومحافلهم الاجتماعية، وذلك دون المساس بالأنظمة القانونية المعتمدة والمعايير الدولية، كما دعوا جميع الجهات العلمية والاجتماعية والوطنية إلى دعم وتأييد هذه الوثيقة، والمساهمة في تحقيق أهدافها المشتركة.
وأشار البيان الختامي للمؤتمر إلى تشكيل لجنة تنسيقية مشتركة تُعرف باسم "اللجنة التنسيقية بين المذاهب الإسلامية"، حيث تتولى الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي وضع نظامها وتحديد رئاستها وأعضائها ومهامها، بالتنسيق مع كبار الشخصيات الإسلامية من مختلف المذاهب.
ومن المقرر أن يتمتع هذا الاقتراح بالمصادقة خلال المؤتمر القادم المقرر عقده بناءً على النقاش والتوافق الذي سيحصل عليه فيما بينها.
وجرى على هامش المؤتمر توقيع عدة مذكرات تعاون وتفاهم مشتركة، تهدف إلى تعزيز التعاون والتواصل بين الجهات المشاركة، مما يعكس التزامها بتعزيز قيم الوحدة والتآلف في العالم الإسلامي.
حيث وقّعت مذكرة تفاهم بين "رابطة العالم الإسلامي" و"منظمة التعاون الإسلامي"، بهدف تعزيز التعاون المشترك بما يضمن تنفيذ مخرجات مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية"، وترسيخ مبادئ الوحدة والتسامح.
كما تم توقيع مذكرة تفاهم بين المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي، بهدف تعزيز التعاون في مجال البحوث العلمية ونشر ثقافة التسامح والاعتدال، وتعزيز الوحدة الإسلامية.