صحيفة "ليزيكو" الفرنسية - فاسيلي جوانيديس*- ترجمة: محمد بدوي- شؤون خليجية-
قبل الانخفاض الكبير في أسعار النفط كان يثار تساؤل عن: ماذا ستفعل الدول المنتجة للذهب الأسود بالشرق الأوسط في حقبة ما بعد البترول. الآن: كيف يمكن للمملكة العربية السعودية أن تتغلب على التداعيات الاقتصادية لهذه المشكلة؟
قبل الانخفاض الكبير في أسعار النفط أثيرت مسألة النموذج الاقتصادي المناسب للبلدان المنتجة للنفط عند نفاد مواردها البترولية. اتجهت كل من قطر والإمارات لاستخدام عائدات النفط في الاستثمار بمجالات الثقافة والرياضة والتعليم. وبينما تأتي المملكة العربية السعودية، مع البرازيل، كأكثر البلدان تضررًا من تراجع الأسعار، فينبغي أن تجيب الرياض على التساؤلات المثارة حول النموذج الاقتصادي المناسب لها، والذي يمنعها من السقوط في فئة البلدان الأقل نموًا.
استثمار متوافق مع تعاليم الدين
يمكن للمرء أن يتوقع أن تقوم السعودية بتقليد جيرانها في الإمارات وقطر، من خلال الاستثمار في قطاعات تنموية جديدة، مثل الثقافة والرياضة والسياحة. نظرًا لأن المملكة هي مهد الإسلام في العالم، فلا يمكن أن تقوم بعمل أي شيء مخالف لتعاليمه. حيث يتمثل التحدي الرئيسي بالنسبة للسعودية هو العثور على نموذج من الأعمال المتوافق مع الشريعة الإسلامية، ومتوائم مع حقيقة أن بيت الله الحرام في مكة المكرمة يقع على أراضيها.
فمن المستحيل أن تقلد السعودية النموذج الإماراتي القائم على هوس جنون العظمة بشكل زائد عن الحد، والذي على أساسه قامت دبي وأبو ظبي ببناء منتجعات للتزلج على الجليد في قلب الصحراء، لجذب السياح الأثرياء من جميع أنحاء العالم، وتوفر أمامهم ممارسات تخالف الإسلام في سبيل دفعهم أموالًا طائلة، فلا يمكن للسعودية أن تحذو حذو الإمارات، لأن تطبيق مثل هذه الممارسات يتناقض مع الدور الأخلاقي للمملكة من ناحيتين:
أولًا، أنها مخالف لمقتضيات الموقع الجغرافي لهذا البلد، فمثل هذا النموذج ينتهك ركائز أساسية في الإسلام، ويتناقض مع مبادئه وأخلاقه.. وثانيًا، فإن نموذج السياحة الإماراتية سيعمل على تشويه حالة الصفاء والقدسية التي تتمتع بها البلاد التي تضم مكة المكرمة، وإذا قامت بذلك، فمن شأنه أن يوقع المؤمنين القادمين إلى الحج في مشاكل.
فمثل هذه الاستثمارات التي تبيح الخمور وارتكاب الفواحش على الأرض المقدسة للمسلمين، ستعمل على خلخلة تصورات القادمين للحج والعمرة. لذلك فإنه من الصعب تصور إدخال هذه الممارسات. لأنه أيضًا سينشأ عنها العديد من المشاكل، أولها المخالفات المالية التي تنظم هذه الأنشطة، وسيخالف ذلك المبادئ الاقتصادية للإسلام التي تنادي بضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية (متمثلة في الزكاة والصدقات)، والاعتدال (كما يتعلم المسلمون من شهر رمضان) وذلك وفقًا لتعاليم النبي محمد عليه السلام. وإضافة إلى ذلك، فإن الأنشطة السياحية والرياضية يتوفر فيها أجواء من الاختلاط والعري بشكل يسيئ لمشاعر المؤمنين.
السياحة الإيمانية
ورغم كل ذلك، فإن أراضي المملكة، مهد المسلمين في العالم، تتمتع بمزايا لا تتوفر عند غيرها، حيث يوجد بها الأراضي المقدسة في الإسلام ولها مكانة كبيرة في قلوب كل المسلمين، ومكة المكرمة هي مهوى أفئدة المسلمين في جميع أنحاء العالم، مما يفتح العديد من فرص السياحة الإيمانية والروحية. فبالإضافة إلى الحج المفروض على كل مؤمن إذا استطاع إليه سبيلا، يمكن للمملكة أن تستثمر هذا الموسم بشكل أفضل. وهذا من شأنه الاستفادة من البعد الديني والمقدس للبلاد، باستخدام سلطة روحية توفر أنشطة جديدة، بالنظر إلى أن السعودية لا يمكن أن تؤسس نموذجها الاقتصادي على أنشطة مخالفة للدين الإسلامي.
فيمكن للمملكة أن تسعى في تنظيم وتطوير السياحة الإيمانية والروحية، مثل أنشطة "الخلوات الروحية" التي تنظمها الهند لغير المسلمين. وفضلًا عن ذلك فإن السعودية تمتلك مقومات روحية أكثر من تلك التي تمتلكها الهند بكثير، فيدعو الإسلام أتباعه إلى التأمل والتفكر وطلب العلم والخلوة مع الله بشكل كبير، ويوجد في مكة المكرمة والمدينة المنورة وغيرهما من المقدسات والآثار والتراث الإسلامي العديد من الفرص التي يمكن استثمارها بشكل أفضل في سبيل تحقيق تلك المقاصد.
وسيكون بالضرورة أن تقترن هذه الأنشطة بحركة تجارية واقتصادية واسعة يتمم فيها بيع المصاحف ومعانيها المترجمة، وكتب العلم وأدوات الصلاة والطعام الحلال.. إلخ. وإذا علمنا أن عدد سكان العالم الإسلامي يزيد على مليار ونصف المليار مسلم، وإذا افترضنا تفاعل 1 % فقط منهم سنويًا في هذه الأنشطة الروحية والعلمية، فيمكن بذلك أن يساهم خمسة عشر مليون مسلم في عمليات تنمية اقتصاد السعودية بشكل مباشر.
التمويل الإسلامي
كما يمكن للمملكة العربية السعودية أن تستخدم التوجه الأخلاقي لدى أغنياء العالم الإسلامي، لتقديم عدد من شهادات ومشاريع الاستثمار المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، لتفتح أبوابًا واسعة من الاستثمار مع مختلف الشركات في الدول الإسلامية.
المجال الأول الذي يتبادر إلى الذهن في هذا الجانب هو البنوك، ففي الوقت الحالي يتوجه العديد من المؤسسات الغربية للتعامل مع المنتجات المالية الإسلامية، والسعودية أولى بالعمل والتميز في هذا المجال وأمامها فرص أفضل من غيرها بكثير. ذلك أن التمويل الإسلامي لا يعتمد على مجرد حملات تسويقية من البنوك الغربية، ويمكن للمرء أن يتوقع نجاحًا كبيرًا للسعودية، إذا تبنت فكرة أن تكون عاصمة التمويل الإسلامي في العالم.
هناك أيضًا مجالات أخرى تمتلك فيها المملكة فرصًا أفضل من غيرها، مثل الاهتمام بالاستثمار في العلوم والجامعات والبحث العلمي بجميع أنواعه، وخاصة المتعلق بالعلوم الإسلامية، وأن تفتح أبواب جامعاتها أمام الطلاب من مختلف أنحاء العالم، ويمكن أن يشكل ذلك مجال استثمار رابح للمملكة في الحاضر والمستقبل.
باختصار، فإن مرحلة ما بعد النفط يمكن أن تدار في المملكة العربية السعودية من زاوية حسن استثمار ما تتميز به، وأهم ما يميزها هو احتوائها على مكة المكرمة، وما تمثله للمسلمين في جميع أنحاء العالم من مصدر إلهام روحي وعلمي وثقافي منقطع النظير.