(فؤاد السحيباني/ راصد الخليج)
لا يزال المغيبين ونخبة الصدفة في بلادنا من أنصار عقيدة التنمية بالصدمة، التي تقوم على فكر قائد واحد، ووفقًا لرغبته وتطبيقًا لمشيئته وحده، يحاولون تمرير ما لا يمكن منطقته بأي حال، وما لم يحدث في تاريخ قريب أو بعيد، من تجارب إنسانية اختبرت وسارت على نهج طويل وضحّت بأثمان هائلة في سبيل رسم طرق جديدة لأوطانها ومجتمعاتها.
من روسيا التي صعدت لمرتبة القوة العظمى لنصف قرن كامل، إلى الصين التي تصارع الولايات المتحدة على قمة الهرم العالمي، إلى اليابان، مرورًا بالهند وكوريا الجنوبية، وغيرها بلاد كثيرة في أزمنة مختلفة، قامت التنمية كاستجابة من نظام حكم لتطلعات وآمال مجتمع كامل، وسارت بقوة دفع الإرادة الوطنية، وحمل التجارب كلها أجيال من الحكام والأنظمة، على اختلافها وتنوعات توجهاتها.
صحيح أن التاريخ يحفظ، وسيحفظ، أسماء قادة بدءوا المسيرة، ولعبوا دورًا أكثر من غيرهم في لحظات الإلهام الأولى، وهو الدور الطبيعي للفرد عبر التاريخ، إلا أن تلك اللحظات لم تكن وقفًا على أشخاص في الواقع، بل على أفكار ورؤى، تسلّحت بإجماع شعبي، آمن هو الآخر بحتمية خوض التحدي مع الظرف والزمن والواقع إلى منتهاه.
والحقيقة أن المنطقة العربية بأكملها تفور بثورة تطلعات، تشمل كل الشعوب، وهي مدفوعة بحقوق طال انتظارها من المواطنين تجاه النظم الحاكمة "القروسطية" القائمة، كما هي مسنودة بترابط سحري عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي، النافذة بشدة والعابرة لكل الحواجز القائمة، في آن، ثم إنها تفتح الباب –أو تدفعه بقوة- إلى عالم جديد، ولو إنه لا يزال عاجزًا عن التشكل، لكنه قادم بالتأكيد.
لكن مسيرة النظم الحاكمة، أو حكام الصدفة والمؤامرة والمفاجأة، ممن ظنوا أن التاريخ رهن إشارتهم وينتظر كلمتهم، وهو في الحقيقة ربما ينتظرها للتسجيل في باب البؤس والخيبات، وتسطيرها مع حكايات الفشل الوطني العظمى، هؤلاء ومن حولهم وجب التريث والانتظار قبل أن ينخرط الجميع في بطولة مأساة جديدة، تضاف لمآسينا العربية الممتدة والطويلة جدًا.
وتبرز ضمن التجارب الملهمة للشعوب والأنظمة على السواء، خلال القرن الأخير، التجربة الألمانية، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، أو ما اصطلح بتعريف "المعجزة الاقتصادية الألمانية"، كدليل وشاهد أوفى على ضرورة النظر بعمق لتجارب الآخرين قبل المضي في طريق أثبت مرارًا فشله وبؤس نهايته وسراب رجاءه.
التجربة
بقدر ما تنطق تجربة التنمية الألمانية المذهلة، في السنوات 1945-1958 بدور الرجل الفرد في تحديد مصير أمة كاملة، بالقدر ذاته الذي تضعها ضمن معادلة كاملة، تكشف كنهها وحقيقتها للعيان، فإذا بالمدقق الحصيف لا يجد الرجل الموعود سوى فكرة جاء وقتها، وانتظرها المجتمع كله مستعدًا لتنفيذها، ودفع تكاليفها وأثمانها.
الرجل الذي وقف خلف إعادة بناء ألمانيا –الغربية وقتذاك- هو الاقتصادي الألماني لودفيغ إيرهارت، أحد أبرز خريجي مدرسة فرايبورغ أو "السوق الاجتماعية الحرة"، والتي قامت واستمرت على أطروحات الاقتصادي الأشهر والتر أوكن، والتي تلخص حالة من الاقتصاد المخطط، والذي تتم إدارة شروطه والرقابة عليها من قِبل الدولة، للحفاظ على قواعد عمل السوق الحر ذاته، وليس لنقضها أو كسر قواعد حرية السوق.
عنى أوكن، ومن بعده لودفيغ إيرهارت، بوضع القواعد التي تحرر آليات العرض والطلب، والسماح بحالة المنافسة، مع الحفاظ على وجود الدولة والهيئات الاقتصادية للتأكد من استمرار عمل النظام بالقواعد ذاتها التي أنشأ عليها، وعدم السماح بقيام احتكارات في المقام الأول، ثم تقديم الدعم الدائم لمن هم في حالة إليه، خصوصًا في مجالي التعليم والصحة، بجانب وضع نظام رعاية اجتماعية مرن، يستطيع استيعاب الحالات الطارئة والتعامل معها، واستطاع إيرهارت تنفيذ هذا النظام بكفاءة منقطعة النظير.
بداية عمل لودفيغ إيرهارت كانت قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بشهور طويلة، حين رأى الرجل الذكي لحظة سقوط الرايخ الثالث مبكرًا، ووضع ورقة بحثية عن كيفية إدارة الاقتصاد الألماني في حال هزيمة بلاده، والتي قادته فيما بعد للجلوس على مقعد وزير مالية إقليم بافاريا، ثم الحلول كرئيس للمجلس الاقتصادي لألمانيا الغربية، والتي كانت تابعة للحلفاء آنذاك.
حل إيرهارت على مقعد قيادة الاقتصاد الألماني، المحطم تمامًا، في لحظة مفصلية، كانت المقايضة هي العملة الوحيدة المعتمدة في كل ألمانيا، إذ تراجعت الثقة في المارك الألماني لأدنى معدلاتها، ثم ورث أوضاع ما بعد الحرب من تدمير كامل للبنية التحتية والصناعية، وعدم وجود صناعات ثقيلة على الإطلاق، وقلة عدد الرجال المشتغلين، إذ تكفلت الحرب بقطف زهرة شباب بلاده بين 18-40 عامًا، فباتوا بين قتيل أو فاقدًا لأحد أطرافه، وهو ما ضاعف التحديات التي تكبل أي عملية بناء أو تصنيع.
سريعًا وضع إيرهارت قواعد العمل الجديدة في ألمانيا الغربية، وبدأ عمله بصدام مع القوى الفاعلة في ألمانيا ومع ضباط الاحتلال الأميركي، بتصميمه على طرح عملة جديدة، وهو رهان ربحه إيرهارت، وفاز معه بالثقة المطلقة من كل الأطراف، إذ تمكن من السيطرة على التضخم بواسطة المارك الجديد، وعاد الناس لقبول التعامل بأوراق النقد الصادرة عن البنك المركزي، وفي الوقت ذاته رفع القيود السعرية الموضوعة على المنتجات، لتعود المصانع للعمل والتشغيل، وتبدأ أزمة البطالة في التراجع، والأهم أن الأسواق بدأت تشعر بموجة من التفاؤل الحقيقي، تُرجمت فورًا لموجة هائلة من النشاط الصناعي والتجاري.
المعجزة
فقط بعد أن حاز النظام الاقتصادي الجديد الثقة المجتمعية، بدأت ألمانيا معجزتها الاقتصادية على أنقاض دمار الحرب العالمية الثانية، والتي لم تترك مدينة في ألمانيا كلها دون أن تلفحها نيرانها، وخلال الشهور القليلة التالية لبداية عمل إيرهارت، وصل حجم الاقتصاد الألماني، بنهاية عام 1948 فقط، إلى 80% مما كان عليه في العام 1936، قبل الحرب العالمية الثانية.
واستعاد المجتمع الألماني مع الإصلاحات الجديدة الشيء الكثير مما عرف عنه من انضباط ودأب على العمل، فإذا بساعات البحث عن عمل جديد تنخفض للنصف، من 9.5 ساعة أسبوعيًا إلى 4 ساعات فقط، بما يعني انخفاض البطالة بالنسبة ذاتها (نحو 40%)، وبدأت المدن الألمانية مشروعات بناء وتحديث هائلين، لمحو آثار سنوات الحرب والقصف والتدمير، لترتفع مرة أخرى الأنشطة الصناعية والتجارية إلى مستويات قياسية.
خلال السنوات التالية، شجع إيرهارت تخفيض الفائدة لأقصى حد ممكن، والاستفادة الكاملة من كل الفرص التي يتيحها الوضع الجديد لألمانيا بقرب المجتمعات الغربية التي كانت تخوض هي الأخرى تحديات مماثلة، وبعد 10 سنوات من العمل الشاق والمستمر والدؤوب، ارتفع الاقتصاد الألماني إلى 4 أضعاف حجمه قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة، وهو بالأساس كان يوصف بالضخم.
عمل لودفيغ إيرهارت بجانب عباقرة، وضعوا الخطط المتكاملة لبداية مرحلة جديدة من عمر بلادهم، كانت تنتظرهم وتحتاجهم، بقدر احتياجهم الشخصي والإنساني للإنجاز والنجاح، فبرز بجواره العبقري هيلمار شاخت، رئيس البنك المركزي الألماني، والمستشار كونراد أديناور، الذي كان نوعًا جديدًا من القادة على الساحة الألمانية، مارس الحكم بأسلوب الإدارة التي تجمع ولا تفرق، عقب كارثة الحرب والهزيمة والاحتلال.
وتتبقى نقطة لافتة في مسيرة التعافي الألماني السريع من الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، وهي نقطة دعائية في المقام الأول، إذ يذهب البعض إلى تأثير كبير لمشروع مارشال الأميركي في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب، وهو المشروع الذي ضخت من خلال أميركا 15 مليار دولار للدول الأوروبية، لكن الأرقام الألمانية تكشف بجلاء مدى تفاهة المبلغ بالنسبة للحالة الرثة التي كانت عليها ألمانيا في شهر مايو/أيار 1945، عشية نهاية الحرب، إذ لم يترجم إلى أكثر من 5% من كل عائدات ألمانيا خلال سنوات المشروع الأميركي، الذي كان سينمائيًا أكثر من كونه مشروعًا اقتصاديًا حقيقيًا.