دول » السعودية

نقد التكفير أو الحرب على الإرهاب

في 2015/09/01

محمد بن علي المحمود- الرياض- ذكرت في المقال السابق قول المتطرف الذي يقول لنا – مدافعاً عن تراث التقليدية التكفيري الذي نشأ عليه -: إنه نشأ على التقليدية المتطرفة، واقتنع بمقولاتها التكفيرية، بل وصرّح أيضاً بالموافقة الواعية على ممارساتها التاريخية في استباحة الدماء، ولكنه لم يصبح إرهابياً، أي لم يُقدم بنفسه على القتل والتفجير. وفي هذا دليل – كما يزعم هذا التكفيري المراوغ – أن مقولات التقليدية المتطرفة، المتلبسة بكل صور التكفير والنفي والإقصاء واستباحة الدماء، ليست هي التي تدفع بشبابنا إلى الإرهاب؛ حتى ولو كانوا يتتلمذون عليها بوصفها الحق الصراح (= صريح الإسلام)، بل حتى ولو كانوا يستدلون بنصوصها التفصيلية وممارساتها التاريخية على صوابية إرهابهم المبني على التكفير!. وقد قلتُ في ذلك السياق: إن من يُعاضِلُ في هذا؛ إما جاهل يُخادع نفسه أو كاذب يُخادع الآخرين، مؤكدا أن الإرهاب طريق طويل، يبدأ من الاقتناع، ومن ثم الموافقة التي تصنع البيئة الحاضنة المُحفّزة، ليصل - بقلة قليلة (صادقة مع نفسها، ولا تملك ما تخسره) - إلى تنفيذ ما اقتنع به كثيرٌ من مستهلكي هذا الخطاب التكفيري، ولكنهم لم يمتلكوا شجاعة التنفيذ.

يقرأ الشاب – بتحفيز من بعض وُعّاظنا – تراثاً عقائدياً يقول بتكفير من قال بكذا وكذا؛ حتى ولو كان من المسلمين، بل ويُنزّل ذلك التكفير على أعيان من شخوص وبلدان وجماعات. يقرأ الشاب هذا التراث الذي منحه وُعّاظنا ختم الصواب المطلق، فيأتي إلى الواقع الراهن، حيث يرى فيه كثيراً مما حكم عليه ذلك التراث بالتكفير الصريح. الشباب هنا يقفون متسائلين في حيرة: إذا كان من يقول بكذا وكذا كافراً، ومن يفعل كذا كافراً، وقد تم تطبيق هذا التكفير في التاريخ على نحو عملي، وحكمتم أيّها الوُعّاظ على ذلك الفكر والتطبيق بالصواب، بل بالصواب المطلق؛ فلماذا تمنعوننا من تكفير من يقول بالقول نفسه، ومن يمارس الأفعال نفسها في الزمن الحاضر؟، هل عقائد التكفير – يتساءل الشباب – تُطبّق بالهوى؛ فيتم إنزالها على أناس دون أناس، وعلى دول دون دول، وعلى جماعات دون جماعات، أم هي حقائق وقوانين إلهية، لا تُحابي أحداً، ولا تعرف التمييز، ولا تستجيب للمراوغة والمداهنة في التطبيق؟!.

إلى الآن، لم يستطع الوعاظ إقناع مثل هؤلاء الشباب بصوابية التكفير(وما ترتب عليه من استباحة الدماء) في الماضي، وفي الوقت نفسه، خطئه الجسيم في الحاضر. لماذا التكفير عقيدة إيمانية راسخة يجب تطبيقها دون هوادة هناك، وهو ذاته ضلال وجريمة هنا؟. المسألة عقائدية، ولا مجال فيها للمداهنة كما يراها الشباب الذين تلقوها بالقبول. مثلاً، لا يستطيع الشباب الذين انغرس في أعمق أعماقهم الإيمانية أن (أي مسلم) يُعِين (غير مسلم) على (مسلم)، فهو كافر لا محالة، وبصرف النظر عن أي تبرير(= الولاء والبراء)، لا يستطيعون أن يتوقفوا في تطبيق هذا (الأصل الإيماني!) على كل التحالفات الدولية الراهنة، وتكون النتيجة أن تصبح كل الدول الإسلامية في نظرهم دولاً كافرة، وكل مواطنيها كفار، يجوز قتالهم واستحلال أموالهم وأعراضهم ودمائهم. وهم لا يَستثنون من ذلك إلا مَن أعلن البراءة من هذه الدول جملة وتفصيلاً؛ ليحقق بذلك – كما يتوهمون – أحدَ أهمّ أصول الإيمان.

لو لم يكن التكفير؛ لم يكن القتل والتفجير/ الإرهاب. المسألة فكرية عقائدية في الأساس. وقد قلتُ من قبل: إذا وقع التكفير، لم يعد المسجد مسجداً، ولا المصلون مُصلّين. ولهذا، من العبث الحديث مع التكفيريين عن حرمة المساجد وعن عصمة دماء المُصلين المسلمين. للأسف، نحن نحاول ردع التكفيريين الإرهابيين عن سلوك التكفير/الإرهاب بالحديث معهم بأحاديث عاطفية، دينية أو شخصية، ولا نتوجه إلى أصل المسألة، حيث مشروعية كل التصرفات. ببساطة، أصل المسألة أن التكفيري لا يراهم مسلمين، ولا يرى صلاتهم صلاة، بل يراهم كفاراً مرتدين، أو كفاراً أصليين.

لا قيمة للحديث عن أي مقدس أو محرم مع الإرهابي؛ قبل الحديث عن أصل التكفير لديه. كل المقدّسات والمحرمات تصبح مباحة مع التكفير. فمثلاً، المسجد الحرام، وكل المتعبدين فيه صلاة وتِطْوافاً، لا حرمة لهم في نظره؛ ما لم يكونوا مسلمين، أي ما لم يسلموا من إيقاع أحكام التكفير عليهم. أما إذا وقعت أحكام التكفير عليهم؛ فحينئذٍ، يصبحون كفاراً، وبالتالي، يصبح المسجد الحرام مكاناً كحاله أيام الجاهلية، ويصبح المتعبدون فيه كحال كفار قريش وهم يتعبدون عند الكعبة، سواء بسواء!.

من هنا، فالحل – إذا ما أردناه جذرياً - لا بد أن يتوجه إلى أصل المشكلة، أي إلى المنظومة التراثية المتطرفة المتخمة بمقولات التكفير. هذه المنظومة، لا بد من نقدها وتفنيد مقولاتها علانية، ولا بد أن يشترك الجميع في هذا النقد والتفنيد؛ لتنتقل من موضعها الاعتباري، كمقولات مقدسة محصنة؛ بوصفها عين الصواب، إلى كونها مجرد مقولات بشرية خاضعة للظروف الشخصية والاجتماعية لمنتجيها. وبالتالي، فليس لها أية قيمة دينية، بل هي مجرد تراث عابر في سلسلة التجارب التراثية البشرية في تاريخ الإسلام، حيث تتضمن كثيراً من الأخطاء الفادحة التي لا علاقة لها بصحيح الإسلام.

وهنا يأتي سؤال مشروع في مدى الوعي الجماهيري، وهو: هل يمكن القضاء تماماً على التكفير؟. الجواب طبعاً: لا. التكفير، كالجريمة، كلاهما لا يمكن القضاء تماماً عليه، ولكن يمكن الحد منه بدرجات متفاوتة، وفقاً للظروف المحايثة. وبالنسبة للتكفير، يمكن الحد منه إلى درجة كبيرة، وذلك بنقله من دائرة المشروع دينياً، إلى دائرة المُجرّم دينياً وقانونياً. فهناك فرق كبير بين أن يوجد التكفير، ويكون محل تقدير واحترام، ويكون لمُروّجيه مكانة معتبرة اجتماعياً، وبين أن يوجد، ولكنه محل تحقير ونبذ وتجريم، وليس لمُروّجيه إلا النبذ والتجريم الاجتماعي والقانوني. ولك أن تتخيل كيف سيكون الوضع إيجابياً؛ فيما لو كان (الواعظ التكفيري) منبوذاً ومحتقراً في نظر المجتمع كله، بنفس الدرجة التي يكون فيها (مروّج المخدرات) منبوذاً ومحتقراً !. لا شك، في مثل هذه الحال، لن تجد إرهابياً يفتخر بفعله الإرهابي (فأنت لا تجد مروّج مخدرات يفتخر بفعله)، ولن تجد وَسَطاً اجتماعياً حاضناً ينظر إلى الإرهابي بعين العطف والإشفاق؛ إن لم يكن بعين التأييد الذي قد ينتهي بمنحه بعض صفات الأبطال.

نصل هنا إلى المسألة الأهم، وهي أن ما يجعل التكفيري لا يتلبس بذات العيب الاجتماعي (الذي يتلبس به تاجر المخدرات مثلاً)، هو أن الرؤية العامة للتكفير تسرّبت إلى وعي كثيرين، شعروا أم لم يشعروا. بمعنى أن كثيرين أصابتهم عدوى مقولات التكفير دون أن يكونوا على وعي بأنهم أصبحوا مُصابين بها. وبالتالي، فإذا ما ظهر التكفير من أحد، فلن تنفر منه أنفسهم بالدرجة الكافية؛ فما بالك إذا ما ظهر من واعظ يتلبس بالدين ؟!.

كثيرون يظنون أنهم بمنأى عن عدوى التكفير، مع أنهم خاضعون تماماً لمنطق المنظومات العقائدية التي تتأسس – أصلاً – على التكفير. لقد نجح الخطاب التكفيري في صنع (تكفير) متعدد الموجات/ المستويات، وكل موجة تدعم أختها بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي تقديري أن هذا الخطاب أنتج لنا إرهابيين على النحو التالي:

1 الإرهابي المتسامح مع التكفير/ الإرهاب. وهذا قد لا يكون مقتنعاً بمقولات التكفير، إلا أنه لطوال تواصله مع وُعّظها، وفي ظل تحصينها ضد النقد الذي يكشف عيوبها، لم يعد يرى فيها كبير خطر. بل هو – في أحسن الأحوال – يعدها اختيارات دينية لأناس مُتشددين من حقهم أن يشددوا !.

2 الإرهابي المقتنع بالتكفير/ الإرهاب. وهذا يعتقد اعتقاداً جازماً بصوابية الرؤى التكفيرية، ويرى أنها تُعبّر عن صحيح الإسلام. لكنه يكتفي بهذا الاعتقاد، ولا يتجاوزه إلى أي فعل قولي أو عملي.

3 الإرهابي المؤيد فكرياً للتكفير/ الإرهاب. وهذا وإن كان يكتفي بالتأييد الفكري، إلا أنه يخلق حالة فكرية/ نفسية في محيطه، ترى أن التكفير هو الصواب، وأن الإرهابيين مُناضلين في سبيل تحقيق صحيح الإسلام.

4 الإرهابي الداعم مادياً ومعنوياً للتكفير/ الإرهاب. هذا يساهم مساهمة فعلية في نشر فكر التكفير/ الإرهاب، إما بنفسه؛ إن كان واعظاً، أو بنشر إنتاج الوعاظ التكفيريين. وقد يكون الدعم بالتواصل مع وسائل الإعلام المتطرفة، ودعمها بالمال أو بالرجال. بل وقد يتواصل مع الإرهابيين مباشرة، ويقدم لهم كثيراً من أشكال الدعم المادي والمعنوي.

5 الإرهابي المستعد للتضحية بنفسه في سبيل التكفير/ الإرهاب. وهذا المستوى الأخير، وهو ما نراه في أولئك الملتحقين بداعش أو بالنصرة مثلاً، كما نراه في الذين يُفجّرون أنفسهم داخل مجتمعاتنا.

الحقيقة التي يجب أن نكون واعين بها تمام الوعي، أن هؤلاء كلهم إرهابيون، ولكن بدرجات متفاوتة. عندما نعي هذه الحقيقة؛ ندرك حجم المشكلة، ومن ثم نرى، وبوضوح، أن المتطرفين نجحوا في جعل كثير منا لا يرى الإرهابي إرهابياً إلا إذا وصل إلى المستوى الخامس/ الأخير. بل ومن جرّاء هذا الالتباس؛ بتنا نرى ونسمع المتطرفين يُصرّحون بكل صلف وتبجّح ببراءة التكفير من الإرهاب، زاعمين أن تأثير التراث التكفيري ضئيل، وأن دوره محدود في انتشار الإرهاب. وهم في هذا يُحاولون أن يشدّوا أنظارنا إلى الإرهابي رقم (5) فقط، لنتعامى عن بقية الإرهابيين (1،2،3،4) الذين هم الأرضية التي يقف الإرهاب عليها. وللأسف، نجحوا في ذلك إلى حد كبير.

إذاً، بما أن المتطرفين نجحوا في أن يجعلونا لا نرى الإرهابي إلا في صورته الأخيرة/ الخطيرة، فقد حق لهم أن يزعموا براءة منظومتهم التكفيرية من الإرهاب. هم يقولون لنا صراحة: إن المنظومة التكفيرية ليست مسؤولة عن سلوكيات بضعة أفراد، وأن كثيرين تتلمذوا عليها، وآمنوا بها، ولكنهم لم يُصبحوا إرهابيين. وهم يقصدون بهذا، أنهم لم يصلوا إلى المستوى رقم (5)،وبالتالي – وفق حصرهم الإرهاب في مستواه الأخير – لم يسهموا في إنتاج حالة الإرهاب.

لو كان (وباء التكفير) لا يكون خطيراً حتى يتساقط الجميع من جراء العدوى به؛ لوجب أن لا تُعد (الأوبئة) خطراً حتى يتساقط الجميع من جرّاء العدوى بها. إننا نحارب فيروس كرونا مثلاً، مع أنه لم يقتل إلا العشرات، أي أقل بكثير مما قتل الإرهاب. ومع هذا لم نقل إن فيروس كورنا ليس خطيراً؛ لأن كثيرين تعرضوا له فلم يقتلهم في الحال. أيضاً، نحن نمنع المخدرات ونحاربها، مع أنها لو كانت غير ممنوعة فلن يتعاطاها أكثر من 1% على أكثر تقدير، ولكن هذه النسبة مع ضىآلتها ستكون مدمرة للمجتمع. كذلك (وباء التكفير)، لا ننتظر حتى يتساقط الألوف (أي حتى يصلوا المرحلة الأخيرة منه:5) حتى نقتنع بخطره، ولا ينفي خطرَه أن هناك من تعرّض له؛ فلم يفتك به لدرجة القتل، بل يجب علينا إعلان الحرب عليه بمجرد إدراكنا أنه وباء قاتل.