دول » الكويت

خطباء يصنعون الفتنة والإرهاب

في 2015/10/09

عادل النيل- السياسة الكويتية-

الأزمة الدينية التي انتجت التطرف مرجعها الأساس ليس تواضع القدرات العقلية للشباب المستهدفين بخطاب دعوي قاطع, وإنما أصحاب الخطاب الذين استغلوا النص وتوجيهه بصورة دراماتيكية الى متاهات تفوق احتمال العقل على تحديد الخيارات وممارسة دور فكري يستوعب المتغيرات الفقهية في دلالات النص الذي يتم قذفه في العقول غير الناضجة, ذلك يحدث ارتباكا فقهيا يستفيد منه الخطباء والدعاة الذين يمتلكون مهارات خطابية تكفي لحدوث التضليل الضروري الذي ينتهي بهم كوادر متشددة وغليظة الفكر.

هناك بالتأكيد فارق كبير بين الخطيب والعالم, غير أن خطباء اليوم يملكون حناجر ذات طبقة صوتية أعلى من رقة العالم وترفقه بالسامعين, وفي ذلك قفز لدور ليس لهم يوهمون به المستهدفين بإحاطتهم بصنوف الفقه بما يبعد بهم عن الحقيقة الأساسية لدورهم وهي أنهم تلقينيون يحفظون ويضخون النصوص بحسب ظاهرها الى ذهنية لديها انفتاح للحصول على مكتسبات تتماس بهم مع الجنة والرضا الإلهي والقبول الذي يحدد شروطه الخطيب وليس العالم, ولذلك فإن التنظيمات المتطرفة تستفيد كثيرا من الخطباء دون حاجة للعلماء.

المساحة بين العالم والخطيب كبيرة الى الحد الذي تضيع فيه أصول دينية مهمة مثل الاجتهاد والقياس, وإذا كان الفقه في سياقه اللغوي يشير الى الفهم, فإنه ليس بمقدور الخطيب أن يكون فقيها لمجرد حفظ النصوص, ذلك تسريب عميق لمقتضيات الفقه يقودنا الى انتاج أجيال متلقية غير قادرة على الممارسة الفكرية والعقلية المهمة في الإطار الديني, ولا يتصور أن ينتهي خلاف فقهي أو تبادل للرأي الى نتيجة منطقية تكتسب احتراما أو تكون جديرة به.

في السابق, كانت اختلافات الفقهاء والفلاسفة جدية وموضوعية تثري الفضاء الفقهي وتعصمه من الانزلاق الى سفاسف الأمور, وهكذا وصلنا مرحلة الفتيا في وقتنا الراهن في أمور وقضايا تليق بالرويبضة وعامة الناس, على نسق ذلك الذي يسأل إن دخل الخلاء أيستقبل القبلة أم يستدبرها? فأصبحت المجتمعات تنشغل برؤى جدلية عقيمة تحتمل إما تفريطا واما إفراطا في الدين, فأصبح كثير من الناس بين هائمين في جهاد مغلوط أو ضائعين في وهم مصنوع.

اختلافات فقهاء وعلماء السابق كانت مجدية وتثري الفكر وفقه الواقع, وترتكز الى فلسفة تتوسل عمق المجريات والمتغيرات, أما اليوم, فإما أن تكون مع أو ضد, وتلك ليست حالة دينية مناسبة تعزز سلامة الفقه من الحالين الخاطئين, الإفراط والتفريط, ففيما كانت تلك الاختلافات, كما في حال اختلاف ابن رشد مع المشائين العرب وابن سينا في مسألة الوجود والماهية, وابن رشد مع الإمام الغزالي حول تكفيره لفلاسفة الإسلام بحسب كتابه “تهافت الفلاسفة” انزاح ذلك الاختلاف الى حروب شفاهية جدلية أمعنت في إبقاء الموروث متخلفا ورجعيا.

ظهور مبدأ المصادرة الدينية لدى الخطباء, من الطبيعي أن يقذف في وعي الناس فتاوى وآراء وأحكاما ليست غريبة وحسب وإنما تمعن في تطوير الفهم السلبي للدين, وليس لخطيب أو فقيه أن يمتلك زمام الدين والحقيقة ويتعامل معها كصك غفران يمنحه لاتباعه, ذلك يحدث في عصرنا الراهن, وهو انتقال متوارث في حركة الدين منذ ظهور الدول والدويلات الإسلامية, وتجييش الناس لأهداف وغايات ليست دينية في الواقع وإنما سياسية, وبظهور العامل السياسي في حركة الدين مارس هؤلاء تخريبا منهجيا في الحراك الديني والفقهي, فالعالم ببساطة لا يجرؤ على الجمع بين الممارسة السياسية والدور الديني, وذلك من تمام العقل ونبل المقصد وشرف العلم.

في حديث عمران بن الحصين “لا أنت قبلت ما تكلم به, ولا أنت تعلم ما في قلبه” تطابق مع اتجاهات الخطيب الذي غالبا ما يقود دابة في اتجاه واحد, لا يقبل رأيا مضادا ولا اختلافا معه, فمسألة الرأي الآخر لا يسندها مرجع في فكره, وبالتالي فهو يمارس دورا سياسيا وليس دينيا يحترم الآراء ويقبلها في غير الثوابت والأصول, وهو بحاجة الى مساحة من صمت الاتباع ليبث فكره ويحتفظ به الى حين انقضاء الغاية.

والحال على ذلك, فإن الازمة الحقيقية في حضور الخطباء بمهاراتهم الخطابية, وتواضع دور العلماء الذين يسمحون بتولي أمرهم بيد هؤلاء, ولذلك هناك فراغ وثغرة عميقة بين الخطيب والعالم تصل بنا الى الإفراط في تناول الشأن الديني, خصوصا أن المنبر لهم, ودون دور لكبح نمو الخطابة وتلقين الشباب جرعات دينية تفوق مستوياتهم العقلية والفكرية, مع إيقاف توظيف العامل السياسي لهم, فإن موجات التجييش المنحرف دينيا لن تتوقف.

التطرف والإرهاب والقفز على سماحة الدين ووسطيته مشكلات تفسر أزمة الدين وتطويعه وتكييفه وفقا لمعطيات العمل السياسي من الخطورة بما يسمح بظهور ما هو أسوأ من المتطرفين, تفشي الإلحاد وفقدان القدرة على الالتزام وانهيار المناعة الدينية, وحينها لا يمكن لأي ممارسة سياسية في المجتمعات الإسلامية أن تنجح لأنه حين يفقد الناس الثقة في نخبتهم الدينية سيهربون الى أنفسهم بأقل الفقه ومحفوظات النصوص, وربما يكون ذلك أسلم من حمم العقائد الفاسدة, ولكن تضييع الدين بيد الخطباء يغرس الكثير من التضليل الذي تنشأ معه الفتنة, وحين تذهب الثقة فلا شيء يبقى.