ساد تعبير «المكارثية» حتى صار مصطلحًا معولمًا يستعيد سيرة سيء الذكر «جوزيف مكارثي» الذي حارب ما افترضه توغلًا شيوعيًا في بلاده حين أذن له موقعه التشريعي في الكونغرس الأميركي أن يُخوِّف ويخوِّن ويتوهم ويتهم ؛ فحوكم أناسٌ وأبعد من أعمالهم آخرون، وخفتت الأصوات لسطوته الممتدة من إيمان الأجهزة الأمنية بإشاراته أو لنقل : بإثاراته، ثم علت الأصوات الحرةُ فانتهى الأمر به محاكَمًا لا حاكِمًا ومات مدمنًا طريدا.
حادثة مفردة دخلت التاريخ بالرغم من أن فصولها لم تدم غير أربعة أعوام انتهت عام 1954م حين اكتُشف تضليلُ عضو مجلس الشيوخ ودارت الدائرةُ عليه،وهو الأمر المتوقع في مجتمع مؤسسيٍ يحتكم إلى القانون ولا تعبر فيه موجاتُ التكاثر والتآمر كما تصنع في عالمنا العربي الذي يصحو كما يغفو على جاهزية التهم وعبثية الأحكام.
انتهى مكارثيهم وبقي مكارثيونا ؛ فبالرغم من حاجتنا لتمتين الجبهات الداخلية لكل قطرٍ تعصف به الأنواء والأدواء إلا أننا نشهد التراشقات بين الساسة والوشايات لدى العامة، وقد زاد استمراؤُها مؤخرًا حتى صارت لعبة للصغار يتقاذفها المغردون في وسائطهم؛ فليس أيسرَ على كثيرين من رمي مخالفيهم بارتماءٍ يميني أو يساري يضمنون معه حدًا من التعاطف وإن جلب كثيرًا من العواصف.
وإذ دخل المثقفون دائرة المزايدات على الانتماء فقد عدنا إلى زمن التفتيش في النوايا والملاحقة في الزوايا،واستبدل التشكيك في الوطنية بالتشكيك في العقيدة؛ فكأن الصحوة المغادرة خلفت وراءها شكلًا جديدًا من الحرية الملتبسة المؤذنة بمكارثية ثقافية تزيد التصدعات ولا تجد مضاداتٍ أو مصدات.
المواطنة خط أحمر لا يجوز لمن شاء منحُه ولمن شاء منعُه، ومهما اختلفت التوجهات والتوجيهات فالوطنيةُ ليست شعارًا يرفع أو دثارًا يُوضع، وحين سادت الحزبيات المتصارعة في الستينيات وجاهر الناس بولاءاتهم القومية والناصرية والإسلامية وامتلأت مجالسهم بالحوارات الحادة بقي الوطن خارج مدارات التجاذب ؛ فالكل يقف في صفوفه ويعزف على دفوفه، وخنادقه تتسع لهم كما بنادقه بأيديهم.
ولعل من يتابع أوضاع الأمة يدرك ضياع اتجاه البوصلة لدى أبنائها، وبدلًا من توحدهم خلف قضيتهم يتشتتون في مكارثيات رديئة هجيراها نفي الانتماء والتشكيك في الولاء وطلب المحاكمات وإنزال العقوبات ، وإذ نعيش وضعًا عربيًا بائسًا فإن من تبقى من النخب مساءلون عن محاولة إصلاح عطب البوصلة وإعادة برمجتها ولملمة ما تبقى من التشظي فلعل الجيل الناشئَ يعي واقعه والأخطار حوله فيلتئم عقدٌ لم يزل منفرطًا منذ عقود.
ليهنأ يهودُ والملالي وأذيالُهم فقد كفيناهم وأوفيناهم،وبات الأمل معقودًا في أجيالٍ لم تتلوث بمؤدلجين مكارثيين وحزبيين اندفاعيين وحواة وغواة يلعبون على كل المسارح ويؤدون كلَّ الأدوار.
الوطن لا يقبل الاقتسام.
د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي- الجزيرة السعودية-