د. أحمد الغامدي- اليوم السعودية-
كثير منا يتحدث عن ضرورة الاصلاح الديني، إما لأن شريحة الناس في إقبال على الدين فضلا عن حاجتهم إليه في الحياة، وإما لأن شريحة من الناس في إعراض عن الدين لأسباب خاصة أو عامة، وإما لأن هناك تشويها لحق بالدين فلا بد من تصحيح مظاهر الخلل من تشبّث بالقراءات المتشدّدة أو المتساهلة للدين ورد دعاوى الغلو أو التفريط الباطلة، وإما لجمود شريحة من الناس على رؤى لا تواكب العصر، ولا تسمح بإعادة النظر في المعاني المتجددة فيه حتى أصبح ذلك الجمود يعيق تطور الإنسان وبناءه، أو لأسباب أخرى.
لقد كتبَ في الإصلاح الديني الكثير نظريا بدافع الرغبة في تحديث المجتمع، والدفع به إلى مصاف الدول المتقدّمة، انطلاقاً من الرؤية التي تربط الإصلاح السياسي بالإصلاح الديني، وكانت هناك شريحة من الناس ترفض هذه المطالبات وتدعو للتمسك بما هي عليه خوفا من التغيير أو تشكيكا في أسبابه، فأضافت إلى الممانعة من الاجتهاد وساوس وشكوكا واتهامات إضافية، مع أنه يجب أن يعلم أن الإصلاح الديني شيء ونصوص الوحي شيء آخر، فالإصلاح الديني اجتهاد بشري متجدد يتصف بالنسبية؛ ويعبّر عن اجتهادات تتوخى الإجابة عن تساؤلات تسترشد بنصوص الدين، وليس ذلك الاجتهاد والتجديد تغييرا لنصوص الوحي.
فهي أفهام تتجدد لتجدد الواقع والزمان والظروف المختلفة، وكل أطروحة تجديدية تتوخى الإصلاح الديني ليست بمنأى عن البحث والمساءلة والنقد والمراجعة، ولا يجب التسليم بها دون البحث والمراجعة في أدلتها وخلفياتها.
أمّا الدين كنصوص محكمة وأحكام قطعية وقيم لا تقبل التغيير، فليست محلا للتجديد في ذاتها ولا تخضع للتغير، بل تلك المحكمات والقطعيات حدود لا تعارض تطوير فهمنا ومعرفتنا لما يقبل التغيّر والتطور.
إن الإصلاح الديني، ينطلق من النصّ المقدس ومدلولاته وحدوده ولا يتعداها؛ والنص المقدس يحتوي على المضامين الدينية المراد إبلاغها وإيضاحها، والاجتهاد والتجديد لن يتحقق إلا بأدوات وآليات تستنطق النص المقدس من القرآن والسنة الصحيحة وتسترشد به حول متغيرات الواقع المتجدد ومتطلباته، وتوجه تطور العلوم الإنسانية والطبيعية من خلال مدلول النص المقدس.
فالإصلاح والتجديد الديني بلا شك ليس قضية نفعيّة وليس عمليّة براغماتيّة للتكيّف مع مقتضيات العصر، أو الاستجابة لإملاءات غربية، وضغوط خارجية، بل هو دعوة قديمة دائمة في كلّ عصر، وكلّ جيل ليجيب عن الأسئلة المتجددة التي لها صلة بالنص المقدس عن وعي ومعرفة حقيقية وفق ما توصل إليه من فهم واستدلال لا يتعارض والنص المقدس، فالإصلاح الديني ضرورة واقعية وإنسانية؛ نظراً لما له من انعكاس على الأوضاع الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.
لقد ظلّ الإصلاح الديني قائما عبر الأزمان دعوة متواصلة، وبرز له روّاد كثر ثاروا على الأوضاع الدينية والاجتماعية القائمة والسائدة، وأقاموا لإصلاحاتهم أسسا تجدد بها الفهم في إطار النص المقدس ففتحت لهم الآفاق مع كل واقع مختلف، وإباء فريق من الناس يزول مع الزمن، لأن التجديد والاصلاح الذي ينطلق بوعي حقيقي ولا يصطدم مع النص المقدس كان ينتصر في كل مرة مستلهماً أفكاراً جديدة، لبناء وإصلاح متجدد على أسس متينة، تجدد وتطور ما ألّفه المسلمون في حياتهم.
الإصلاح الديني ليس إنكاراً للماضي؛ بل هو استكمال لما بناه من مضى، فالماضي قاعدة ينطلق منها، وهو عبارة عن بناء معرفي تراكمي وانتقال تدريجيّ يستغرق فترة زمنية طويلة، لا ينتج إلا عبر الاجتهاد في مدلول النص والمعرفة بالواقع ومتطلبات المستقبل، فهو حركة واعية للتوافق الصحيح مع الواقع لتحقيق التقدم والتطور وعمارة الأرض وبناء الإنسان مع الحفاظ على الثابت المقدس الديني.