حسين إبراهيم-
مع توجُّه القطريين اليوم إلى صناديق الاقتراع لانتخاب 30 من أصل 45 عضواً في مجلس الشورى، في أوّل انتخابات تشهدها قطر منذ نشوئها، تُفتح صفحة جديدة في تاريخ هذه الإمارة، عنوانها بحْث سلالة آل ثاني عن شرعية رديفة للشرعية التاريخية، قائمة على تلبية «شكلية» للمطالبات الشعبية بالمشاركة في صناعة القرار وتقاسم أفضل للثروة. وعلى رغم أن الانتخابات فُرّغت، مسبقاً، من أيّ مضمون تغييري، إلّا أنها قد تفتح الباب أمام وصول شخصيات «مزعجة» إلى مجلس الشورى، بما سيُسبّب «وجع رأس» للقيادة السياسية، فضلاً عن أن تأثيرات هذا الحدث ستمتدّ إلى السعودية والإمارات اللتين ستكونان مُحرجتَين أمام شعبَيهما لاتّخاذ خطوة مماثلة
حين فشلت الدبّابة الأميركية في تقديم نفسها كمحرِّر للعرب من طغيان مجالس قيادة الثورات القديمة، المتحوّلة إلى حكم استبدادي متوارث لسلالات عائلية، كان البديل موجة ثانية من الثورات، الشعبية هذه المرّة، التي أسقطت عدداً آخر من هؤلاء الطغاة، ثمّ جاءت بـ«شرعية» الانتخابات المهندَسة أميركياً على قياس «الإخوان المسلمين» ـــ الذين يتسارع مسار انحدارهم اليوم ـــ، ليتمكّن هؤلاء من الوصول إلى الحكم بالمؤازرة الأميركية. لكن تقهقر المشاريع لا يعني سقوط صنّاعها الجاهزين دائماً لإخراج أرانب أخرى من أكمامهم. قطر، الحليف الأول لحركة «الإخوان المسلمين»، هي واحدة من صنّاع تلك المشاريع بالوكالة عن الولايات المتحدة. وبهذه الصفة، مثّلت الدوحة أحد عرّابي «الربيع العربي» الذي كان يُفترض به نقل هذه المنطقة إلى عصر الديمقراطية، بنسختها «الإخوانية»، فكيف تكون كذلك، وهي نفسها لا تعرف الانتخابات؟
جرى تأجيل الانتخابات القطرية طويلاً إلى أن تمكّنت الدوحة من العثور على الوصفة التي تُفرغها من أيّ مضمون تغييري، وتَترك لها الشكل الفولكلوري المبهرج الذي شهدت قطر استعراضاته خلال الأيام الماضية. لكن على رغم محدودية الأبعاد العملية للحدث الانتخابي القطري، إلّا أن التصويت على انتخاب ثلثَي أعضاء مجلس الشورى (الثلث الباقي يعيّنه الأمير)، للمرّة الأولى في تاريخ الدولة الخليجية الصغيرة، يمثّل نقطة تحوّل ليس على مستوى البلد فحسب، وإنما على مستوى الخليج كلّه الذي تعيش دوله لحظات تُطرح فيها أسئلة كبرى مِن مِثل: إلى أين من هنا؟ ما يجري في قطر يبدو مُعيَّراً ليحقّق سلسلة أهداف داخلية وخارجية، أبرزها إضفاء شرعية انتخابية على مؤسّسة الحكم التي يقودها الأمير الذي يجري اختياره منذ بروز سلالة آل ثاني في عام 1825، من قِبَل «أهل الحلّ والعقد». على أن هذه الشرعية المنشودة لن تتأتّى فقط من مجرّد إجراء انتخابات، ولكن أيضاً من كون الغالبية العظمى من المرشّحين يردّدون لازمة الولاء للقيادة «الرشيدة»، ما يعني أن انتخابهم بحدّ ذاته، هو نوع من ممارسة فعل الولاء هذا. ومن بين الأهداف كذلك، تنفيس الاحتقان الناجم عن عدم ممارسة الشعب القطري أيّ نوع من المشاركة السياسية، على رغم انتشار الفعل الديمقراطي في معظم أنحاء العالم، بحيث لم يَعُد حكّام الخليج قادرين على الصمود طويلاً أمام التململ الشعبي، والمطالبات بالمشاركة في صناعة القرار وتقاسم أفضل للثروة، وهو ما يظهر جلياً في دول الخليج كافة، حتى في الدول الأكثر ثراء. مثل تلك المطالبات هيمنت على الحملة الانتخابية القطرية، حيث برزت شعارات مِن مِثل تحسين الخدمات الصحّية، وزيادة التقديمات الاجتماعية للمتقاعدين والطلاب، وإيلاء اهتمام أكبر للمرأة، وحتى منحها حق نقل الجنسية القطرية إلى أبنائها، على رغم صعوبة هذا المطلب الأخير بالنظر إلى تعقيدات موضوع الجنسية في الخليج ككلّ، وتأثيراته العميقة على كيانات الدول نفسها.
ستظلّ التجرية القطرية راهناً قاصرة كثيراً حتى عن التجربة الكويتية التي يحلو للقطريين التشبّه بها
كلّ أسر الحُكم في الخليج، بِمَن فيها آل ثاني، تتصرّف على أن شرعيّتها تاريخية، قامت داخلياً عبر اتفاقات مع قبائل وإخضاع أخرى، واستندت خارجياً إلى علاقات بنيوية مع الغرب الذي كان المستعمر والوصي أيام تسلّم هذه الأسر السلطة، وبالتالي فهي لا تحتاج إلى انتخابها بشكل مباشر. وباستثناء ثورة البحرين المُجهَضة في عام 2011، لم تجرِ أيّ محاولة جدّية لفرض حُكم دستوري في أيّ من دول «مجلس التعاون الخليجي»، كما لم يتمّ إنتاج مشروع بديل للأسر الحاكمة، أو حتى مشروع شراكة في السلطة. والانتخابات القطرية لن تقرّب القطريين من المطالبة بمثل هذا الأمر، لكنها ستُحدث تغييراً في دينامية العمل السياسي، من دون أن تمسّ بالصلاحيات المنوطة كلّها بالأمير الذي ينفّذها مباشرة أو عبر مجلس الوزراء، ويبقى دور مجلس الشورى استشارياً أكثر منه تقريرياً. وحتى في الحالات التي يستطيع المجلس فيها اتخاذ القرار، كإقرار الموازنة وسحب الثقة من الوزراء، يمكن للأمير نقض قراراته بمرسوم أميري. وستظلّ هذه التجربة راهناً قاصرة كثيراً حتى عن التجربة الكويتية التي يحلو للقطريين التشبّه بها، فكيف إذا أُخذ في الاعتبار أن التجربة الكويتية التي عَرفت مطالبات علنية، ومن داخل مجلس الأمة، بإقامة إمارة دستورية، فشلت في تحقيق ذلك الهدف، على رغم أن مجلس الأمة يملك صلاحيات واسعة، حيث للمعارضة حالياً غالبية الأعضاء المنتخَبين (الوزراء أعضاء غير منتخَبين في مجلس الأمة حكماً). ولذا، كما في الكويت، أيضاً في قطر، فُرض على أفراد أسرة الحُكم الابتعاد عن الانتخابات ترشيحاً، حتى تكون هذه المساحة خاصة بِمَن هم خارج الأسرة، وتظلّ في المقابل المساحة المتاحة للأسرة في الحُكم مقتصرة عليها أيضاً وموصدة بوجه الآخرين.
مع ذلك، قد لا تستطيع القيادة السياسية القطرية التحكّم بالعملية بشكل كامل، من زواية أن النوّاب المنتخَبين سيكتسبون قوة معنوية من الانتخاب الشعبي حتى لو كانوا في موقع الولاء للأمير، في حين أنه إذا وصل معارضون للأسرة إلى المجلس، فقد يستغلّون قوّتهم المعنوية هذه لإثارة مشكلات للحُكم، وسيكون التضييق عليهم محرجاً للقيادة السياسية. وربّما لهذا، تبدو السياسة مغيّبة تماماً عن برامج المرشّحين، بقرار واعٍ من السلطة السياسية التي فصّلت القوانين على المقاس الذي تريده، والباقي تكفّلت به الإجراءات المباشرة، كشطب بعض المرشّحين الذين يمكن أن يكونوا مزعجين، من أمثال المرشحة مباركة المرّي. وفي المقابل، سيكون للانتخابات تأثير سلبي على النسيج القبلي في قطر، في ضوء استبعاد أبناء القبائل مِمّن لا يملكون ما يسمّى الجنسية القطرية «الأصلية» عن التصويت والترشّح أو عن الترشّح فقط، بحسب الفترة التي مضت على حصولهم أو حصول آبائهم على الجنسية القطرية. ولعلّ أكثر قبيلتَين تستشعران الغبن جرّاء ذلك، بنو مرّة وبنو هاجر، ولذا فهما تحتضنان أشرس المعارضين للقيادة السياسية القطرية.
ومع كلّ هذا، يخوض المرشّحون الانتخابات بحماس، في ظلّ تنافس عدد كبير منهم على المقعد الواحد، يصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 15 متنافساً على مقعد الدائرة. ففضلاً عن الطموحات الشخصية للمرشّحين إلى الوجاهة والنفوذ، تمثّل هذه المساحة الضئيلة المتاحة للاختيار الحرّ متنفّساً، وأملاً بالتقدّم في المستقبل نحو أشكال أوسع من المشاركة الشعبية. أمّا البُعد الأهمّ في الانتخابات القطرية فيتمثّل في التأثيرات التي ستخلّفها على منطقة الخليج، وخصوصاً السعودية والإمارات اللتين ستكونان محرجتَين أمام شعبَيهما لاتخاذ خطوة مماثلة، ولو بالشكل الجزئي الذي تفعله قطر.