سامية الجبالي- البيت الخليجي-
مع بدء مباريات كأس العالم قطر 2022 بمشاركة نجوم كرة القدم العالمية وانطلاق الاحتفالات بتنظيم كأس العالم، لا يزال اللغط والجدل حول سماح قطر لمشجعي المنتخبات المشاركة في البطولة للعام 2022 بممارسة حرياتهم الشخصية قائمًا، خصوصًا من جانب عواصم دول غربية يعتقدُ القطريون أنها تقود حملة ممنهجة لأهداف سياسية. بالتوازي، وفي اتجاه مضاد، يمكن ملاحظة أن المجتمع القطري ذاته يمثل أداة ضغط أخرى ضد السلطات القطرية، معتبراً بعض مظاهر الاحتفالات تُمثل تعديًا على قيم وعادات البلاد وتقاليدها.
وكانت التوجيهات التي تم من خلالها تحديد المسموح وغير المسموح القيام به خلال ما يقارب الشهر، هي المدة التي ستلعب فيها المباريات، قد لقيت انتقادات دول أوروبية على وجه الخصوص. ويزجّ المنتقدون للضوابط التي تفرضها قطر على سلوكيات وممارسات المشجعين القادمين إليها، بملف العمال الذين عملوا على تجهيز كافة المستلزمات من أجل تنظيم هذا العرس الكروي العالمي في تبريرهم انتقاداتهم هذه، مع أن الملفّين منفصلين تمامًا ويستوجبان ردود فعل مختلفة بعيدًا عن الإصرار على رفع شعار مجتمع “الميم”. في السياق ذاته، يؤكد القطريون أن ما قامت به بلادهم من إصلاحات حول حقوق العمال بالتعاون من منظمة العمل الدولية يطوي صفحة هذا الملف نهائيًا.
لم يكن خافيًا على أي من المشاركين في مونديال 2022، أنه سيقام على أرضٍ عربية مسلمة، يتمسك فيها المجتمع، كما الدولة، بتقاليد وعادات وقيم إسلامية، فضلاً عن الاعتزاز بهوية قبلية تفرض محددات على السلوك والتعامل بين الأفراد. من جانب آخر، بعض النخب في المجتمع القطري أيضًا، يبدو أنها للتو قد علمت بأن استضافة حدث عالمي كبير مثل كأس العالم لكرة القدم سيتطلب من الدولة والمجتمع الاستجابة والقبول باشتراطات عدة، تضمن للجماهير حول العالم، مهما على اختلافاتها، الحضور إلى المونديال ومشاهدة المباريات والاحتفال بها.
أمام هذه التحديات الداخلية والخارجية، تبدو مهمة الفيفا واللجنة المنظمة للمونديال شاقة ومشوبة بالجدل والمنغصات التي قد يكون من شأن ارتفاع وتيرة التنافس بين المنتخبات، ما بعد الدور الأول، أن تقلل من حدتها وتداعياتها.
ولئن قامت دولة قطر بتخفيف بعض القيود مراعاة لمتطلبات واشتراطات استضافة المونديال رغم التقاليد والعادات المُحافظة للبلد، إلا أن ذلك فرض على الدوحة تحديات مجتمعية يمكن ملاحظة تبعاتها. و للإشارة، سبق لأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أن تناول هذه المسألة، منذ أشهر إبان زيارته لعدد من الدول الأوروبية حين أكد على أن قطر سوف تظل بلدًا عربيًا مسلمًا محافظًا على العادات والتقاليد التي لا تحكر حريات الآخرين لكنها تتوقع من الذين يعيشون أو يأتون للدوحة أن يحترموا هذه العادات التي شكلت مع الوقت هوية لدولة قطر وثقافة تمحورت لسنوات، مشددا على أمله في أن يستمتع الحضور بثقافة قطر التي تختلف عن ثقافات أخرى وأن يحترم الجميع هذه الثقافة التي تتضمن محافظة البلاد على السلوك العام.
يُسلط هذا المشهد في مجمله العام الضوء على الاستراتيجيات التنموية لقطر التي تسعى لتقديم الدوحة باعتبارها عاصمة عالمية لمختلف الرياضات حول العالم. ومع بدء المونديال، الذي هو انجاز كبير لهذه الاستراتيجية، يمكن القول إن قطر والقطريين يدخلون جميعاً اختبار جهد شاق للمضي في هذه الاستراتيجية واستدامتها عبر الموازنة بين نموذج اقتصادي يتطلب قدراً معتبرًا من الانفتاح والتسامح المجتمعي من جانب، وبين مجتمع قبلي يعتبر واحداً من أكثر المجتمعات الخليجية تديناً ومحافظة من جانب آخر.
من الجدير بالذّكر، أنّه من المتوقع أن يزور دولة قطر نحو 1.2 مليون مشجعًا، لحضور مباريات كأس العالم التي تستمر حتى 18 ديسمبر/كانون الأول والتي تقام للمرة الأولى في منطقة الشرق الأوسط منذ انطلاق المونديال عام 1930، وهو ما يجعل هذه النسخة من المونديال مختلفة عن سابقاتها، على أكثر من صعيد، ففضلا عن أنها تدور في موسم الشتاء خلافا لما هو متعارف عليها، فإنها تقام ﻷول مرة في بلد عربي يتمتع بطبيعة مجتمعية مختلفة.
يعتبر السماح بشراء المشروبات الكحولية داخل مجمعات الاستاد قبل وبعد المباريات، من أهم الإجراءات التي أكّدت قطر على تطبيقها خلال فترة احتضانها لكأس العالم 2022. ويمكن للجماهير أن تتناول هذه المشروبات في منطقة المشجعين مساء، كما أنها متاحة في المطاعم والبارات الحاصلة على تراخيص في قطر أو في البيوت بالنسبة إلى المقيمين في الدوحة من غير المسلمين الذين لديهم رخصة خاصة. ومن المتوقّع أن تتعامل السلطات الأمنية بنوع من المرونة مع مستهلكي المشروبات الكحولية من المشجّعين ما لم تبدر منهم تصرّفات تخل بالأمن العام.
في ما يتعلّق بموضوع المثلية فلن يمنع أي زائر من دخول قطر بسبب ميولاته الجنسية لكن المجاهرة بذلك وحمل علامات ترويجية ستقابل بالمصادرة كما أكّدت السلطات على تجنّب إظهار العلاقة الحميمة في الأماكن العامة لما فيه من خدش للحياء. أما بالنسبة إلى اللباس فقد دعت سلطات البلد إلى ارتداء ملابس محتشمة في الأماكن العامة بما يتماشى وطبيعة المجتمع.
ورغم وضع هذه الخارطة السلوكية إلا أن ذلك لن يمنع من أنه سيكون على القطريين التعاطي مع تصرّفات المشجعين بالكثير من التسامح في سبيل إنجاح هذه التظاهرة الكروية العالمية. وهو ما يعني بطريقة أو أخرى، ضرورة التعامل مع الانتقادات الداخلية التي من المتوقع أن تتزايد تباعًا.
صراع الهويات في مونديال قطر لا يخلو من تدخلات السياسة، وهو ما تجلى في تصريحات صحافية لمسؤولين رسميين في الدوحة أكدوا أن هذه الأجواء مشحونة بالسياسة. رغم ذلك، يمكن القول إن هذا الجدل هو جدل طبيعي ولطالما رافق جميع بطولات المونديال السابقة، وهو أيضاً، مرآة تعكس حقيقة تحدٍ مجتمعي يخوضه القطريون أنفسهم في صناعة تجربتهم العالمية الخاصة، تجربة تسعى إلى التمرد على محددات واشتراطات صناعة العواصم العالمية وفق وصفة الثقافة الغربية، وهو دون شك، تحدٍ صعب يجعل مهمة القطريين شاقة وصعبة وفريدة من نوعها، معاً.