محمد كريشان- القدس العربي-
اشتهر إعلاميا بـ«قانون الجزيرة» مع أن نصّه لا إشارة فيه للقناة بالاسم، وهو القانون الذي أقرّه «الكنيست» الإسرائيلي بأغلبية 70 صوتا مقابل 10 ويمنح رئيس الوزراء إمكانية حظر بث أي قناة يعتبرها تهديدا لأمن الدولة العبرية.
القانون الذي تعهّد نتنياهو بـ«التحرّك فورا» لتنفيذه متهما «الجزيرة» بأنها «بوق لحماس» وبأنها «شاركت بشكل نشط في مجزرة السابع من تشرين الأول/أكتوبر»(كيف ذلك؟!) ما هو في الحقيقة إلا انتقام من القناة الوحيدة في العالم التي جعلت من العدوان الإسرائيلي على غزة الموضوع الأوحد لتغطيتها الإخبارية على مدار الساعة طوال السنة أشهر الماضية.
لم تشف إسرائيل غليلها بقتل أكثر من مائة صحافي من بينهم من يعمل في هذه القناة نفسها، مع أفراد من عائلاتهم أيضا، فرأت أن تحظرها بالكامل مع أن هذا القرار استعراضي بدرجة كبرى وقد لا تكون له نتائج حقيقية على الأرض، فمراسلو القناة الشجعان في غزة سيواصلون عملهم وكذلك في الضفة الغربية، وبالتالي فقد لا تتضرر عمليا سوى التغطية داخل الخط الأخضر وحتى هذه ليست أكيدة لأنه بالإمكان اللجوء إلى ألف طريقة للحصول على الأخبار والضيوف والمواد الفيلمية من هناك.
لقد بلغ سخط الإسرائيليين من القناة أوجه مع تواتر فضائح جيش الاحتلال التي كشفتها مؤخرا سواء تلك التي تعلّقت باستهداف مدنيين عزل بطائرة مسيّرة حصلت القناة على تسجيلاتها، أو تلك اللقطات الحصرية التي تظهر إعدام مدنيين بدم بارد وجرف جثثهم مع التراب وخلطها بالقمامة، وصولا إلى ما كشفته من فظاعات مرعبة في مجمّع الشفاء الطبي تجاوزت في وحشيتها مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا الفلسطيني في لبنان عام 1982. وقد تراكم هذا السخط الإسرائيلي من القناة على امتداد الأشهر الماضية من التغطية المستمرة لمأساة غزة بسبب كشف أكاذيب الاحتلال الكثيرة ونوعية التحاليل التي يقدّمها ضيوفها، وشعبية محللها العسكري فايز الدويري (الذي نتمنى له الشفاء العاجل) فضلا عن بث أشرطة العمليات الجسورة للمقاومة وكشف مصير الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين لديها، إلى جانب كلمات أبو عبيدة الناطق باسم كتائب عزالدين القسام والمؤتمرات الصحافية للقيادي في «حماس» أسامة حمدان من بيروت.
التشنج وضيق الأفق لدى الحكومة الإسرائيلية الموغلة في التطرف والعنصرية، وكذلك لدى نواب الكنيست بمن فيهم المعارضة نفسها، وجزء كبير من الإعلام الإسرائيلي، جعل كل هؤلاء لا يهتمون بأن نفس هذه القناة، التي يكرهونها ويسعون إلى حظرها وإغلاق مكتبها في القدس المحتلة، لم تكن تتردد طوال الأشهر الماضية في نقل كل المؤتمرات الصحافية لرئيس الوزراء ووزير حربه والناطق العسكري لجيشه وغيره من المسؤولين، مع أن نقل مثل هذه المؤتمرات لم يكن ينظر إليه بارتياح في أوساط متابعي القناة التي حققت أرقاما قياسية في المشاهدة طوال هذه الفترة بما لا يقارن على الإطلاق مع كل القنوات الإخبارية الناطقة بالعربية ولو مجتمعة.
قرار حظر «الجزيرة» والذي أعربت واشنطن عن «قلقها» المعتاد منه، سيزيد بلا شك من تدمير صورة من أرادت دائما أن تقدّم نفسها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» وهي التي لم تسمح للإعلام الدولي بدخول غزة خشية مزيد فضح جرائمها هناك، تذكّرنا أجواؤه بنفس ما كانت الولايات المتحدة تبديه من غضب عارم بسبب تغطية القناة لحربها على أفغانستان 2001 ثم غزوها للعراق 2003 فقد أعرب وقتها وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد علنا أكثر من مرة عن امتعاضه من تغطية المحطة مع أنه هو شخصيا ورئيسه جورج بوش الابن وغيرهما من المسؤولين الأمريكيين كانوا يظهرون على شاشتها أكثر من أسامة بن لادن عبر أشرطته الشهيرة أو صور عمليات المقاومة العراقية.
الأكيد أن ما زاد من غيظ المسؤولين الإسرائيليين هو أن «الجزيرة» وبحكم ما كشفته من جرائم موثّقة في غزة باتت مصدرا موثوقا تنقل عنه وسائل إعلام دولية عديدة، وهي التي كانت غالبا ما تتجنب تغطية الفظاعات في غزة من قتل وتجويع وتنكيل، بحيث انتشرت عالميا أخبار هذه الجرائم ولم يعد ممكنا تجاهلها أو التعتيم عليها حتى أصبحت محل تعليقات من مسؤولين سياسيين في كل أنحاء العالم. كل ذلك ساهم في مزيد نشر الوعي عالميا بكل ما يحدث في غزة وبزيف الروايات الإسرائيلية المختلفة خاصة عندما تنتشر هذه المواد عبر مقاطع مختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي وبين الشباب مما يزيد من حجم التعاطف الدولي ويذكّي أكثر المظاهرات المستمرة في أكثر من عاصمة حول العالم، وهو ما سيصبح بالتأكيد قرائن إدانة في محاكمات دولية.
لقد خسرت إسرائيل معركة العقول والقلوب في أصقاع عدة من هذا العالم وخاصة بين الشباب، وتهاوت تدريجيا سرديتها القديمة والجديدة، بحيث لا يعدو أن يكون ما قام به نتنياهو من حظر «الجزيرة» محاولة بائسة منه لتحطيم المرآة التي يرى فيها قبحه لكنه لن يجني سوى جرح نفسه من أجزائها المتناثرة في وجهه ليس إلا.