مرآة البحرين-
بابتسامة لم تفارقه طيلة اللقاء، استقبلنا المسقطة جنسيته والمبعد قسراً عن موطنه، حسين خيرالله. اللقاء الذي تجاوز الساعة قليلاً، كان مليئاً بتفاصيل ما تعرض له نقابي ألبا، والمسعف الذي عمل في الخيمة الطبية في دوار اللؤلؤة، ما تعرض له من تعذيب داخل السجن في 2011 على يد الضابط بدر إبراهيم الغيث (أحد المتهمين بتعذيب الشهيد عبدالكريم فخراوي حتى الموت)، عذابات فخراوي هي الأخرى لم ينساها خيرالله وهو الذي سمع فخراوي يعذب في السجن، ولم يغفل استهداف شركة ألبا ونقابة البنعلي له بشكل مباشر لأنه "العجمي الوحيد" في مجلس إدارة النقابة الأخرى المقربة من المعارضة، كل هذه التفاصيل حاضرة في ذهنه طازجة وكأنها للتو حدثت.
يذهب خيرالله أبعد من ذلك، يرى في إبعاده رسالة واضحة لعجم البحرين، باعتقاده إن العجم شاركوا في انتفاضة الثمانينات وتم إبعاد كثيرين منهم، لذلك هم ابتعدوا عن انتفاضة التسعينات، لكن ثورة اللؤلؤة وحدت الجميع، ورأت السلطة نفسها أمام شعب متحد وموحد خلف مطالبه، لذلك هي تضرب العجم بإبعاده كي يبتعدوا عن الاحتجاجات.
ماذا حصل في اليوم الأخير من تواجده على أرض أوال، كيف عامله المحققون والضباط، تعرضه للضرب والشتائم، لماذا رفض المغادرة، كيف أجبر على ركوب الطائرة، لماذا توجه إلى العاصمة بيروت، أسئلة كثيرة طرحناها عليه، ليفتح قلبه إلينا وليروي حكايته ... هذه حكايتي وهذا ما حصل.
عند استيقاظك في ذلك اليوم، ما كانت مشاريعك؟ ما الذي كنت تنوي القيام به؟ وما الذي حصل فعلًا؟
المُبعَد حسين خير الله: في الأساس كنت قد نويت اصطحاب عائلتي إلى المول (المجمع التجاري) في فترة ما بعد الظهر. لكن وأثناء متابعتي أخبار القضية في النهار عبر وسائل التواصل الاجتماعي من خلال مجموعة كان أنشأها "مسحوبو الجنسية"، وصلني عند الظهر خبر تأييد الحكم. في بداية الأمر تبادر إلى ذهني عند رؤيتي كلمة "تأييد" أن الحكم يصب في صالحي، وأني قد حصلت على البراءة. حين أعدت قراءة الرسالة، عرفت فعلًا أن ذلك يعني ترحيلي وإبعادي. عدت إلى المنزل، لم أخبر زوجتي بأي شيء. قلت لها فقط إنني أريد النّوم. غير أني لم أستطع النّوم فعلًا، كنت مشغول البال وكثير التفكير، وكنت أستقبل كماً هائلاً من الاتصالات والرسائل النصية بعد صدور الحكم. اضطررت، إثر كل ذلك، أن أخبر زوجتي، في بادئ الأمر، اعتقدَت زوجتي أنها مجرد مزحة لا أكثر، وعندما تأكدت من الأمر انهارت وبكت كثيرًا.
بعد قليل، أتى أخي، وبعد وصوله بقليل، بدأت اتصالات مكثفة ومتواصلة تردنا من مكتب الهجرة والجوازات. الموظف الذي اتصل بي، كان للأسف زميلًا سابقًا لي في الدّراسة، قال لي: "تعال إلى الإدارة للتوقيع على تعهد يلزمك بالحضور للهجرة والجوازات متى ما طلبناك". في البداية لم أثق بكلامه، حاولت التأكد منه أكثر من مرة، كانت السّاعة حوالي التّاسعة مساء. سألته: "إمضاء على تعهد في هذا الوقت المتأخر من الليل؟" قال لي: "أنا أريد توقيعك وبعدها ستغادر المبنى" متذرعاً بأن أوقات عمله في نوبة المساء وأنه لا يريد تأخيري، وتبين كذبه لاحقاً. فعند ذهابي، أغلقوا كل الأبواب، ومنعوني من الخروج.
ماذا حدث بعد أن صُرف شقيقك من مبنى الجوازات؟
خير الله: في الواقع هم لم يسمحوا لإخوتي بالدّخول حتى من الباب الرّئيسي للمبنى، ولا حتى إلى موقف السّيارات في الدّاخل، تركوهم خارج المبنى، ولم يسمحوا بخروجي من إدارة الهجرة والجوازات كذلك. هناك وجدت موظفي الهجرة والجوازات بانتظاري في موقف السّيارات، ومعهم "زميلي السّابق" الذي طلب مني الصّعود إلى المكتب، زاعماً أن الأمر عبارة عن إجراء بسيط، ومن ثم "تستطيع المغادرة"، حين ذهبت إلى المكتب، لم يأتٍ هو، بل دخل شخصٌ أكثر "خسة"، وقال لي: "إنظر، إنك دخلت إلى هذه الغرفة، ولا خروج لك منها إلا باختيار وجهتك، فإما أن تختار الذهاب إلى العراق أو لبنان" قلت له: "لن أذهب للعراق ولا للبنان، سأظل في البحرين". بدأ الموظف برفع صوته عاليًا والصّراخ، وقال لي: "أنا الذي أقرر. قل لي أين تريد الذهاب لبنان أم العراق؟"، وحاول كثيرًا لكني أصريت على رفضي. فتركني في الغرفة، وذهب الموظفون لمشاهدة مباراة كرة القدم في التلفاز بين برشلونة وفريق آخر.
في هذه الأثناء سمعتهم يجرون اتصالاً بشخص آخر، وكان كلامهم معه في غاية الاحترام، وتبين لاحقاً أنّه مسؤول في الهجرة والجوازات (اسمه أبو أحمد) وهو من الأسرة الحاكمة.
في داخل مبنى الهجرة والجوازات تم شتمي أكثر من مرة، وضُربتُ أيضًا ... حاولوا إدخالي لسيارة لكني رفضت، وبعد تهديدي وضعت في السيارة مرغماً وتم أخذي إلى المطار.
وصلنا إلى المطار، وتحديداً في الطابق الأرضي عند مدخل القادمين، فبدأت التكلم بصوت عال وباللغة الإنكليزية، قلت إني بحريني وإنه يتم ترحيلي من بلادي بالقوة، ومن دون أي تهمة، حاولت بذلك لفت نظر بعض الأجانب القادمين ... وأردت أيضًا إخبار البحرينيين الآخرين عما يحدث لي، ولكن مسؤولاً في أمن المطار، بلباس مدني، هددني، وخاطبني مسئول في الجوازات بالقول "إذا ستواصل استخدام هذا الأسلوب سأقوم بتكسيرك" ... قال لي المسئول في الهجرة والجوازات الذي يلقبونه بأبو أحمد: "نحن نعاملك بإنسانية واحترام فاحترمنا" قلت له: "تعاملوني باحترام وترديون ترحلوني عن بلدي؟ هذا ما تسميه إنسانية واحترام؟"، قال لي: "نعم فأنت شخص غير مرغوب فيه ويجب أن تُرَحّل ... ونحن لسنا سوى جهة تنفيذية".
اصطحبوني إلى غرفة في الطّابق الثّاني، واستمروا في التهديد والوعيد... بقيت في تلك الغرفة طوال الليل، وحتى حوالي التّاسعة صباحًا من دون نّوم. طلبت رؤية عائلتي، قلت لهم: إن والدتي مريضة جدا وهي على فراش الموت ... قالوا: "هذا بيد الله" ...قلت لهم: "لم أر أولادي منذ عودتي من العمل، فقد كانوا في بيت جدتهم" قالوا لي: "أولادك كنت تراهم كل يوم وليس من الضروري أن تراهم اليوم" ... خاطبتهم "الوضع مختلف الآن، سيتم ترحيلي ولا أعلم كم سيطول فراقنا، لكنهم لم يكترثوا لما قلت" وفي نهاية المطاف سمحوا لي برؤية زوجتي واشترطوا أن لا تصرخ أو تفعل أي شيء يثير الانتباه وقالوا لي: "عليك أن تحمد الله وتشكره لأنا سمحنا لزوجتك بإحضار بعض من أغراضك وحاجياتك"، وصلت زوجتي، وعندما رأتني انهارت بالبكاء فأمر مسئول الأمن بإخراجها، ولم أتمكن من رؤيتها لاحقاً.
كنت مصرًا على عدم الخروج من البحرين، وناضلت من أجل ذلك حتى اللّحظة الأخيرة ... لكنهم هددوني ... وبعد إجرائهم لعدة اتصالات بمسئولين قالوا لي إنهم سيسحبون جوازات سفر زوجتي وأطفالي ... وإن مصيرهم سيكون مثل مصيري ...أكدوا لي إنهم سيفعلون ذلك خلال ساعات .... وعندما قوبلت بهذه التهديدات وافقت على الرحيل مرغماً، وتم ترحيلي عند العاشرة من صباح (الإثنين 24 فبراير/شباط 2016).
كانت السلطات قد اختارت وجهتي، أي ذهابي إلى لبنان، وحين أرادوا مني المغادرة والصعود في الطّائرة، قلت لهم إنني لن أتحرك قبل أن أحصل على هاتفي ومبلغ من المال إذ لا يوجد معي أي شيء، لكنهم رفضوا وقالوا "هذي مشكلتك وليست مشكلتنا. كنت تعلم من مساء أمس أننا قررنا ترحيلك لكنك كنت تعاندنا، على متن هذه الطائرة ستغادر، حتى لو لم يكن معك فلس واحد، إنها مشكلتك وعليك تدبير أمرك، فليبعثوا لك بحوالة بنكية لدى وصولك".
هنا، صرخ علي مسؤول الأمن، وحاصرني مع عدد من الضباط، وأخذوني إلى الطّائرة. قبل أن أصعد إلى الطّائرة، قلت لهم: "لا تعتقدون إنكم اقوياء... وأيامكم قادمة إن شاء الله".
كان موعد إقلاع الطائرة قد تأخر بسببي على ما يبدو... وأتيت هكذا ... من دون أي شيء.
هل نويت البقاء في لبنان أم ستنتقل إلى بلد آخر؟
خير الله: في الحالة التي أنا فيها، لم أفكر بأي شيء حتى الآن. الخبر الجيد أنني أنتظر وصول شقيقي الإثنين إلى لبنان. أحدهما كان مُبعَدًا إلى كندا منذ الثّمانينيات... وعندها سنتدارس الأمور ونرى ما يحصل.
*سبب الاستهداف: مسعف في دوار اللؤلؤة و"عجمي"
لماذا برأيك تم استهدافك؟
خير الله: استهدافي لم يبدأ منذ إسقاط جنسيتي، بل منذ فترة اعتقالي في العام 2011... كنت مُسعفًا في الخيمة الطّبية في اعتصام دوار اللؤلؤة ... ما زلت أتذكر الإصابات الكثيرة التي تعرض لها المحتجون في الدّوار ... عندما كنت في السّجن، تعرضت للتّعذيب، لأسباب عديدة أبرزها، أنهم كانوا يريدون منا الاعتراف بأسماء الأطباء والممرضات الذين كانوا موجودين في الدّوار... كنت معصوب العينين لأيام وفي مكان ما تحت الأرض ولم أكن أعرف أين هو ذلك المكان.
كان الحقد واضحًا بشكل جلي في تعذيبهم ... أهم سبب لذلك كان رفضي أنا ومن معي بالاعتراف .. بعد خروجي من السّجن ... كنت أتعرض للمضايقات بشكل مستمر ... وخاصة عند ذهابي إلى السّعودية ... كنت دائمًا أواجه مشكلة ما على الجسر... هناك حادثة حصلت معي عند عودتي مع أسرتي من إجازة عائلية في إيران في سبتمبر/أيلول 2014 ... في مطار البحرين، كانوا في انتظارنا ...كان هناك عناصر من الأمن الوطني فتّشوا حقائبنا بطريقة مهينة ...وفقدنا جوازاتنا.. أعتقد أنهم أخذوها... غير أننا لم نلتفت لذلك إلا بعد مغادرتنا المطار ...راجعت الدّوائر المختصة وملأت الاستمارات اللّازمة، قدمت طلب "بدل فاقد" (جواز سفر مفقود) ويستغرق الطّلب عادة ستة أشهر وفق الإجراءات المتعارف عليها، لكنني حين انتهت الفترة، وجدت أنهم قد أدرجوا اسمي على قائمة "المسقطة جنسياتهم". أما زوجتي وأولادي، فقد حصلوا منذ فترة بسيطة على جوازات سفرهم الجديدة.
هل تتوقع أن إبعادك هو رسالة موجهة إلى عجم البحرين؟
خير الله: نعم، هي بالضبط كذلك لتخويفهم، خاصة في الفترة الأخيرة. في ثمانينيات القرن الماضي شارك العجم في الانتفاضة ورُحّل عدد كبير منهم عن البحرين قسراً، ما أدى إلى ابتعادهم بعض الشّيء عن أحداث التّسعينيات. لكن الأمر لم يكن كذلك في ثورة فبراير/شباط 2011، لاحظت السّلطات أن الجميع متحدين، فصارت تستهدف العجم. أثناء وجودي في السّجن، كنت أُضرَب أكثر، وأُشتَم ويتم تهديدي بالتّرحيل على خلفية كوني "عجميا"... كان الضّابط (الجلاد بدر الغيث) يفتتح سيل شتائمه بكلمة "يالعجمي" ليواصل بعدها التّهديد والضّرب... وهو نفسه الضّابط المتهم بقتل الشّهيد كريم فخراوي. لقد كنا في السّجن ذاته الذي استشهد فيه فخراوي. كنا نسمع صراخ الشّهيد أثناء تعذيبه ولم نعرف أنه هو حيث جميعنا معصوبي الأعين. أذكر أن ذلك الضّابط (الغيث) كان يتفاخر بحصانته في فترة السّلامة الوطنية، يهددني بالقتل ويكرر على مسامعنا :"أنا في الأمن الوطني، ونحن في فترة السّلامة الوطنية، وإذا قتلتك، فلن يستطيع أحد محاسبتي".
أنت عملت في شركة ألبا ... هل تعرضت للفصل إبان الأحداث؟
خير الله: كنت في شركة ألبا... وكنت ممن تعرضوا للفصل من أعمالهم على خلفية سجني بعد أحداث فبراير/شباط 2011. لكننا تمت إعادتنا لاحقاً، لأنضم بعدها إلى النّقابة العمالية لألبا، حيث إني نائب رئيس النّقابة. وأعتقد أن هذا هو أحد أسباب استهدافي.
لقد بدأت عملية الاستهداف من قبل شركة ألمنيوم البحرين "ألبا"، بعد أن تم تلفيق أمر غبي جداً ضدي مرتبط باشتراطات السّلامة، علمًا أنه قد تم تكريمي في هذا المجال أكثر من مرة، والجميع يشهد لي بخبرتي في هذا المجال.
وكان الزعم أني عملت في أحد أفران صهر الحديد الذي وصل الضّغط فيه إلى 1470 وكنت أرتدي "التيشيرت"، أي أنني لم أرتد الملابس الخاصة بالشّركة، ولم ألتزم بقواعد السّلامة، وهو تلفيق سخيف جداً، على إثره تم توقيفي عن العمل لمدة 5 أسابيع، وهذا الأمر لم يحدث لأحد مطلقاً في تاريخ شركة ألبا منذ إنشائها. أخبروني لاحقاً أن هناك عاملًا قدم هذه الشّكوى بحقي، وهذا كان تلفيقًا مع نقابة عمال ألبا (نقابة البنعلي) التي نسميها بـ "النّقابة الصّفراء".
لقد تم استهدافنا في النّقابة العمالية لشركة ألبا ATU، المتهمة بتأييدها للمعارضة، وقد أسماها البعض "نقابة الوفاق"، وأنا الوحيد من اصول العجم في مجلس إدارة النّقابة، كانوا قد عرضوا علي عدة مرات أن أستقيل من منصبي كنائب رئيس ليستطيعوا تسميتها بـ "نقابة البحارنة"... ووجودي كعجمي كان يضرب هذا المخطط. عدة أشخاص صّرحوا لي أن انتمائي للنّقابة يعيق ترقيتي إلى مشرف في العمل supervisor، وأحد المدراء قال لي في قضية توقيفي عن العمل لخمسة أسابيع وبالحرف الواحد: "المسألة ليست مسألة سلامة، ليست هناك أية قضية ضدك، سأكون صريحاً معك، الكل يعرف أن ما حدث كان تلفيقاً ضدك بسبب انتمائك النّقابي".. ودائما ما كانت تحصل بعض الأمور على خلفية انتمائي النقابي.
هذا الاستهداف كان واضحًا ... قبل أن يستلم الشيخ دعيج بن سلمان بن دعيج آل خليفة... وهنا لا بد لي من أن أقول الحق ... هذا الرّجل أنصفنا كنقابة، كنا محرومين لم يكن لدينا مقر في الشّركة علمًا أن إدارتها أعطت النّقابة الأخرى حرية شبه مطلقة. لكن الشيخ دعيج طلب من إدارة الشّركة المساواة في التّعامل مع النّقابيتين. وقد بان أثر ذلك على أرض الواقع، وهذا دليل على أنّا لا ننتقدهم فقط لأنهم ينتمون إلى أسرة آل خليفة، ولا نتعاطى مع هذه العائلة بشخصانية، وقد نمتدح شخصاً نراه غير متورط في انتهاكات ضدنا أو يتعامل معنا تعاملاً راقياً من دون تمييز.