سقطَ خليفة بن سلمان أكثر من مرّةٍ، من أسفلَ ومن عَلٍ، ولكنه لم يرحل. قابله النّاسُ بحُسن الظّن، واعتقدوا بأنّ الرّجلَ لم يسمع جيّداً الإنزعاجَ المدويّ من وجوده الثقيلِ طيلة أربعين عاماً، فقرّروا – ذات يومٍ عظيم – أن يهتفوا علناً ضدّه، وبشعارٍ لا تأويل فيه ولا دوران: “تنحّ يا خليفة”. إلا أنّ النّاس تيقّنوا بعدها بأن مشكلةَ خليفة ليست في السَّمْع وقلّة الفهم، بل في مكانٍ آخر. جزءٌ من المهمّةِ قام بها عبد الهادي الخوّاجة. وقفَ مثل آخر الرّجالِ الصّادقين وقال إنّ المواطنين ينتظرون “رحيلَ منْ في موته فرجٌ لهم”. بحساباتِ الجمْع والطّرح، فإنّ أربعين من السّنين العجاف كانت كافيةً لكي يشعرَ “أوقحُ” البشر وأقلّهم “حياءاً ودَماً”؛ بأنّ عليه أن يتنحّى عن الحكم، ويذهب إلى إحدى جزره ومنتجعاته في الخارج؛ ليقضي فيها ما تبقّى من العُمر بعيداً عن هؤلاء النّاس غير القابلين للشراءِ والموت السّريع. ولكنّه لم يفعل، وأصرّ واستكبرَ استكبارا.
سقطَ في اختبار “بناء الدّولة”، وأسقطَ الوطنَ في “أمن الدّولة”. تساقطَ عليه غضبٌ وازدراءٌ في نهايةِ كلّ عقدٍ من عقوده العجزاء، ولكنّه لم يرحل، ولم يبُدِّل من شرَّه، ولا غيّر من طباعِه المريضة. مرضُه العضال يختبرُ صبرَنا عليه، ويختبرُ المبلغَ الذي يصل إليه في العتوِّ والعدوان. دمُه الملوَّث الذي ينقصُ كلّ شهرٍ، يُستبدَل بآخر. لكنّ التلوّث يُعاوِد الانتشار فيه. علاقةُ خليفة بالدِّم لا تقتصر على الطّبابة وتمديد الحياة. أفرغَ خليفة كثيراً من شرايينِ هذه الأرض. سلَبها حياتها، ونبْضَها الأصيل. يؤمن خليفةُ بالأسطورةِ التي تقول إنّ إطالة العمر ترتبط بالدّماء ومصِّها من الرّقاب. كان، ولا يزال، الأجدرَ بلقب “دراكولا آل خليفة”، وسجّلَ معدّلات قصوى في حصْد الأرواحِ وإزهاق خيرات الآخرين.
خليفة هو رمزُ العائلةِ الحاكمة. وهو “عمّها العزيز” الذي يُطاعُ من غير أن يُؤمَر. بقاؤه من بقائها. سرُّها سرُّه، ونهايتها في نهايته. خليفة هو آخرُ المحاربين القدامى في سلالةِ آل خليفة. اسمه طَبَعَ فيه طباعَها، ومنحَه مسؤوليةَ حمْل إرثها العتيقِ، والعريقِ في السّلْبِ، والقتْلِ، وفي رعايةِ قطّاعِ الطّرق والمَرَدة. هو منْ نزلَ للميدانِ في مارس ٢٠١١م لشحْن المزيدِ من الحماسِ في خيم القتلة، وهو منْ ذهبَ إلى أبطال “ساحة الشّرفاء” ومنازلِها لضخِّ المالِ وإبقاءِ المشانق مرفرعةً في الشّوارع. خليفة، وأكثرُ من غيره، منْ تربّت في مكتبه لحى التكفيرِ وحمّالةُ الحطبِ والسّيوف. بأمره المباشر، وبرعايته الخاصة والعلنية، توالدَ المرتزقةُ ولحّاسو الأنوف، ونمتْ وتنامتْ في مجلسه كلُّ نطيحةٍ ومتردّية. مجلسُه، دون غيره، يبقى مفتوحاً كلّ أسبوع. هو إشعارٌ على أن الحُكْم يكون هنا، وأنّ الرّجل “الخليفي” الأقوى لازال موجوداً، ويتحدّى الجميع. هل صافحَ غيرُه، من الخليفيين، عادلَ فليفل داخل خيمةٍ جُهِّزت للإجهازِ على المواطنين الأصلاء؟ هل تلقّى الجلاّدَ الملتحي مديحاً مُعلَناً من مجلسٍ خليفيّ غير مجلس خليفة؟ هو، وليس غيره، من ذهبَ لمنزل الجلاّد مبارك الحويل، وأعطاه الأمانَ من العقابِ، وصكَّ العلوِّ على القانون. لخليفة رذائلُ شتّى لا يحصيها الزّمان.
وحانَ أوانُ المواجهةِ الكبرى. خليفة والشيخ عيسى قاسم وجهاً لوجه. كلاهما يذكّران النّاسَ بحقبةِ تعثّر بناء الدّولة الحديثة. الشيخ قاسم صاغَ دستورَ البلاد العقدي، ومثّل صوْتَ النّاس في البرلمان. وخليفة صاغَ قانون الطوارئ، وحمى آلَ خليفة من المحاسبةِ ودولة المواطنين. شيخُ الدّراز يُذكّرنا بالحقوقِ والأصلاءِ والبرلمان المنتخب. وخليفةُ الخليفيين يُذكّرنا بالسُّرّاقِ والعبيدِ والمجالس المفتوحة. خلف خليفةَ منْ هو أكبرُ وأشدُّ بؤساً، ولكنّه الأكفأ في تمثيل شرّهم جميعاً. يريد القدرُ أن يُخبرنا بأنّ الخيرَ كلَّه لا يسمو ويزهو إلا حين يبرز ضده الشّرُّ كلّه. وتلك هي حكمة اجتماع الرّذائل، عقداً بعد آخر، في خليفة آل خليفة.
نادر المتروك- البحرين اليوم-