عباس المرشد- البيت الخليجي-
لم تكن مفاهيم المواطنة والقانون المدني ضمن ترسانة التعبئة أو التنشئة السياسية قبل مطلع القرن العشرين، وقتئذ كانت المجتمعات الخليجية ترتهنُ لمفاهيم سياسة ما قبل الدولة الحديثة، وتسير وفق قواعد البنى التقليدية التي حكمت المجتمعات العربية تاريخيا.
مع مطلع القرن العشرين تسربت أفكار المواطنة والمطالبة بالقانون المدني الموحد إلى النخب التجارية والاجتماعية الفاعلة فكانت مبادئ “ويسلون” السبعة، وعلى رأسها حق تقرير المصير، تتداول في المجتمع البحريني كما ساهمت الصحافة الهندية وبروز حركات الاستقلال فيها دورا كبيرًا في إحداث تغيير الثقافة السياسية للمجتمع البحريني.
تحولات المجتمع: من نظام السخرة إلى الدستور
في أكتوبر 1922 تجمع حوالي 1500 مواطناً بحرينيًا أمام مبنى المعتمدية البريطانية في أول تجمع سياسي حاشد وقدموا عريضة للمقيم السياسي الذي كان يزور البحرين طالبوه فيه بوضع حد للمظالم السائدة ضدهم وبالأخص تطبيق نظام السخرة والتمييز في فرض الضرائب والانتهاكات المخلة بالعدالة داخل نظام التقاضي أمام الشيخ الحاكم.
ووفقا لتقرير المقيم البريطاني فقد تجمع هؤلاء المواطنون على خلفية قيام فداوية الشيخ الحاكم بضرب مواطن من قرية بلاد القديم لرفضه العمل بنظام السخرة. لقد أحدثت تلك الحركة الاحتجاجية جدلًا واسعًا حول مفاهيم سياسية لم تكن واضحة المعالم وقتها لكنها كانت تدور حتما حول الأساس الجوهري لمفهوم السياسية الديمقراطية، ألا وهو مفهوم العدالة. واعتبرت هذه الحركة بداية النضال الشعبي للمطالبة بإنجاز الدولة الحديثة، وتحقيق المواطنة الحديثة القائمة على التعاقد الاجتماعي.
مع متنصف ثلاثينات القرن الماضي أصبح مطلب الدستور والمشاركة السياسية على قائمة المطالب المرفوعة للحاكم وإلى الإدارة البريطانية. ورغم محدودية حركات 1934 و1938 وغياب الزخم الجماهيري المصاحب لها إلا أن عقد الخمسينات شهد طفرة واسعة في مفهوم المواطنة وتحول مطلب المشاركة السياسية والعقد الاجتماعي الدستوري إلى ثقافة جماهيرية واسعة مقابل تمنع النخبة الحاكمة من الاستجابة لهذه المطالب السياسية الحديثة.
من جانبها، كانت النخب الحاكمة تنظر إلى المشاركة السياسية على أنها انتقاص من حقوق الحاكم وانقلاب على طبيعة الحكم المسيطر من جهة. ومن جهة أخرى كانت جهود النخبة الحاكمة تعمل على بناء مفاهيمي للمواطنة مغاير تمامًا لمفهوم المواطنة التي تطالب بها القوى الشعبية والسياسية.
لاحقا تطورت أدوات الخطاب السياسي وأصبح المجتمع السياسي في البحرين قادرا على التعبير عن نفسه وأزماته بلغة متحدة مع اللغة السياسية السائدة حديثا إذ لم تمض عدة سنوات حتى طرحت مطالب المجالس التشريعية المنتخبة وإصدار قانون موحد والعمل وفق دستور عقدي. بعبارة أدق كانت السنوات اللاحقة على حادثة المعتمدية سنوات البناء التأسيسي للمجال العمومي السياسي في البحرين.
في الثلاثينات من القرن المنصرم نشطت الصحافة المحلية والإقليمية في إثارة النقاش حول شرعية الحكم ومدى تطابقه مع المنظومة الديمقراطية والعدالة السياسية، كما نشطت التعبئة الجماهيرية في كتابة العرائض السياسية والتجمعات الميدانية في الساحات تحت عنوان سياسي هو المواطنة والعدالة السياسية.
كان موقف النخبة الحاكمة يرفض مثل هذه المفاهيم ويرى فيها خروجا على أصول الحكم الذي تأسس على خلفية استيلاء عائلة آل خليفة على البحرين في 1783 وأن هذا الاستيلاء يمثل سياسيا بإطلاق يد الحاكم على الأرض والثروات باعتبار ذلك ملك يتم توارثه داخل نطاق العائلة.
كان موقف النخب الحاكمة متصلبًا في الاستجابة لمطالب التحول الديمقراطي وبناء دولة حديثة استنادا على مفاهيم المواطنة والعدالة. ونظرا لقوة موقف الحركة الوطنية وتصاعد موقفها السياسي وتحت ضغوط الإدارة البريطانية اجترحت النخب الحاكمة مجموعة من الإجراءات الهيكلية والقانونية، وقدمتها كبديل عن المواطنة الكاملة والعدالة السياسية.
تحت مجموعة الضغوط المحلية، سعت الإدارة البريطانية بالتنسيق مع النخب الحاكمة إلى ما يشبه التحايل على مطلب المواطنة والعدالة عبر اقتراح مجالس للبلدية والمعارف والصحة تكون مناصفة بين الحاكم والناس، حيث ينتخب الناس وفق قوائم طائفية وإثنية ممثلين لهم، ويقوم الحاكم بتعين نصف الأعضاء الأخرين. اما نظام التقاضي المختص بتقديم العدالة وحمايتها فبالرغم من تأسيس محاكم حديثة تأخذ بنظام درجات تراتبية للتقاضي إلا أن المدونة القانونية ظلت صعبة المنال فضلا عن احتكار مناصب القضاء لأفراد من العائلة الحاكمة. الأمر الذي حول نظام التقاضي من نظام يجتهد لتطبيق العدالة وحماية الحريات والحقوق إلى نظام شكلي يعجز عن انصاف المواطنين. حتى الأجهزة الإدارية التي تشكلت لاحقا كجهاز الشرطة والأوقاف ظلت غير قادرة بفعل هياكلها القانونية وابتعادها عن الصيغ الديمقراطية، ظلت عاجزة عن بناء دولة حديثة تكرس مبادئ المواطنة الكاملة.
صراع المفاهيم
بمراجعة أسس الصراع يمكن القول بوجود صراع بين مفهومين للمواطنة في البحرين. الفهم الأول هو انعكاس للتقاليد الإقطاعية التي كانت تربط الناس بالسيد الإقطاعي الذي ولدوا على أرضه، حيث يتيح موروث الانتماء المعتاد لجماعة عرقية أو سيد إقطاعي للحاكم أو شيخ القبيلة منح المواطنة لبعض رعاياه ويخصهم بالعطاءات والهبات والامتيازات. إضافة لاعتبار حق الحكم والإدارة حقًا حصريًا له ولورثته. ويعتبر التنازل عنه خروجا على الشرعية السائدة والمعمول بها.
وترتب على ذلك، كما كان متوقعًا، تهميش جماعات معينة من السكان وفي بعض الحالات خلق مجموعات من الأفراد عديمي الجنسية يتحولون لاحقًا إلى متمردين. مقابل هذا الفهم ينطلق الفهم الحديث من أرضية التعاقد الاجتماعي كأساس للشرعية والمواطنة، وتكون وظيفة هذا التعاقد تحقيق العدالة السياسية والعدالة القضائية. دون شك، ثمة حاجة إلى التمييز بين الدولة كمفهوم اعتباري وكجسد اجتماعي، يتمتع المواطنون من خلاله بحقوق مثل التصويت والمشاركة السياسية واحترام حقوقهم كأفراد أو جماعات مدنية.
في البحرين، ونتيجة سيطرة وغلبة المفهوم الأول بحكم امتلاك القوة والحماية البريطانية، اتسمت الحياة السياسية في البحرين بسمة عدم الاستقرار السياسي والفساد. فالجماعات التي لا تتمتع بحقوق المواطنة هي في الأغلب مستبعدة من الحياة الاقتصادية، أو أنها تقوم بدور كبير غير متناسب في الاقتصاد المحلي، ولا يحق لها التصويت أو التأثير في الحياة العامة من خلال الوسائل الديمقراطية.
نتيجة لذلك، تبدو التظاهرات أو أعمال العنف إحدى الطرق التي تلجأ إليها الجماعات المحرومة من حقوقها لجذب الانتباه إليها. وقد يحفز ذلك الحكومات على قمع هذه الجماعات وتهمشيها الأمر الذي تترتب عليه زيادة الإنفاق على الأغراض العسكرية وإضعاف النمو الاقتصادي. لاحقا وبفعل توظيف إيرادات النفط وتوسع الإدارة البيروقراطية للدولة، تشكلت صورة نموذجية للحكم المطلق تقوم على اعتبار خيرات الدولة غنيمة خاصة بالنخبة الحاكمة. و” تتمثل أحد فنون الحكم المعتمدة في دفع أعضاء العائلة الحاكمة، بالإضافة إلى المستشارين الغربيين، إلى التمركز في دوائر الدولة وأجهزتها البيروقراطية المبنية حديثاً، لكون هذه الأجهزة تعبر عن المؤسسات التي رسخت فيها قوة وسيادة الدولة، رسمياً وقانونياً”
ولذلك، تمركزت سلطة وسيادة الدولة بشكل كبير في العائلة الحاكمة والمستشارين. هذا التحكم في دوائر ومؤسسات الدولة الرئيسية كان يحمل أغراض سياسية عديدة من بينها: بسط سلطة العائلة الحاكمة على بقية السكان. توظيفه كوسيلة لتقنين وحل الخلافات بين أعضاء العائلة نفسها عبر توزيع السلطة السياسية وتنظيم المنافسة بين هذه المؤسسات. ضمان استمرارية وإعادة إنتاج “الدولة” ونظام الحكم الذي ثبتت عليه. [1]
والملاحظ أن إعادة انتاج مواطنة “الرعايا” ظلت مستمرة حتى اليوم، إذ لم تختلف الأمور كثيرًا عما كانت عليه قبل عدة عقود من الآن. وإذا ما عدنا إلى محاولة توصيف البيئة السياسية والاجتماعية التي تشكلت فيها المواطنة المنقوصة فيمكن التأكيد على عدة ملاحظات جوهرية من شأنها أن تعيننا لاحقا في تلمس الحيل الدستورية لوأد المواطنة الدستورية.
تشكلت تقاليد الحكم في البحرين على تركيز وحصر القوة السياسية المحلية بيد الحاكم وعائلته، وذلك عبر احتكار أدوات القسر، واحتكار توزيع الثروات والخيرات والإعفاء من المراقبة والشفافية. وهذا يبدو واضحا في تتبع “توزيع المناصب العليا وتوزيع أعضاء العائلة الحاكمة، أو على الأقل الكبار منهم، على أهم المناصب والمؤسسات في هذه الدولة الجديدة، خصوصاً تلك التي تسمى بالسيادية، وبدأ السعي نحو بناء كادر بيروقراطي من الخبراء والتكنوقراط المحليين الذين عملوا تحت السيطرة العامة للعائلة الحاكمة. وهذا التوزع لأقطاب العائلة الحاكمة على أغلب مفاصل الدولة الرئيسية ثبت نفوذهم، وربط مبدأ الدولة بهم بشكل عضوي، حتى صار من الصعب التفرقة بين الدولة وبين العائلة الحاكمة؛ وكأنهما؛ شيئاً واحدًا.[2]
[1]سقط سهوا ادراج بعض الهوامش في المقالة عند نشرها ووجب التنويه إلى ذلك رعاية لحقوق الملكية الفكرية، لمزيد من التفاصيل انظر/ عمر الشهابي: نقيض المواطنة تاريخ نشوء الحكم المطلق في دول الخليج العربية في عمر الشهابي وخليل بو هزاع (محررون) الثابت والمتحول 2019 المواطنة في تيارات الخليج العربي (الكويت، مركز الخليج لسياسيات التنمية 2019) ص 55
[2] المصدر نفسه ص55