حسين مرهون- البيت الخليجي-
لم تنجح الثورة في البحرين في تحقيق مشروعها لتصبح مؤهلة لإعطاء دروس. لكنّ هذا بالضّبط هو المحفز لكتابةِ دروس ما لم يتمّ تحقيقه. عايشتُ قيام انتفاضتيْن طويلتيْن في بلادي (1994/ 2011) ظلّ شبحهما يحوم باستمرار في محيطي: العائلة الأصدقاء وشعبي. وقد خلّف كلاهما آلام لا تُوصَف. الآلام وحدها لا تُطاق؛ كيف إذا أُضيفت لها المهانة.
لم تنجز أيّ من الانتفاضتين مشروعها الذي قامت لأجله. تمكّنت إحداهما (1994 – 2000) من تحقيق مكاسب جزئية سرعان ما اصطدمت بعُقَد جمّة أدّى إهمالها وتراكمها إلى قيام الانتفاضة الثانية. لذلك فأنا مهتمّ بتمرير جانب ممّا أصبحت أعرفه غضونهما ومخاطبة شباب عربي من جيلي مليئين مثلي بالغضب ويتوقون للتغيير. هي معرفة شخصية لتجربة غير شخصية. شخصيّة لأنها محض انطباعات فرد تسجيلية خالية من العِلم أو اليقين. وإذا حصل أن لاحظتم كثرة استخدام صيَغ الأمر “افعلوا/ لا تفعلوا” فمردّ هذا إلى أغراض أسلوبيّة أكثر منها إلى فِعل أمْر ممتليء واثق بأنّ ذلك هو الشيء الصحيح الذي عليكم فعله حقّاً. لا أسمح لنفسي مجرّد التفكير في ذلك.
إنّ كل ما أهدف له من هذه الورقة هو المساهمة في الجدل العام حول الثورات ومساعدة جيلنا على تلافي أخطاء بعضه البعض. من بين عشر ثورات عربيّة قامت في عقدنا نجحت واحدة فقط في العبور إلى برّ الأمان وإنجاز مشروعها (تونس). بينما غرقت ثلاث منها في حروب أهليّة وحُسِمَت أو جارٍ حسمها بالتدخل الأجنبي (سوريا، اليمن وليبيا). وعادت إحداها القهقرى في انقلاب عسكري رغم إطاحتها برأس النظام (مصر). وحوّلت عوامل الجيوبوليتيك إحداها من ثورة إلى أزمة مستعصية كأداء لا تعرف لها قرار رغم إخمادها بالقوة والتدخل الخليجي (البحرين). وفيما تكابد اثنتان منها في عمليّتين انتقاليتين حذرتين ليس معلوماً بعد كيف ستكون خاتمتهما (الجزائر، السودان). تتلمّس ثورتان إلى جوارهما خطواتهما الأولى في طريق شاق ما يزال من المبكّر معرفة أفقه أو استخلاص نتائج منه (العراق، لبنان).
إنّها وقائع كافية تستحثّنا على التأمّل وإطالة النظر. لقد أيّدت الثورتين في العراق ولبنان وكتبت حولهما كما فعلت مع كل الثورات العربيّة بلا استثناء. ما عدا الممارسات العنيفة التي لم أؤيّدها في كل مكان ولم ألتمس لها الأعذار حتى في بلدي وهي قليلة. آمل أن يكون هذا الأمر كافٍ كي يجعلنا نتحدّث بقلب مفتوح بلا إعاقات تواصليّة. الآن إلى الدروس:
1. تقطيع الوقت لا يعمل لصالحكم: ابحثوا عن أشياء ممكنة واستحقاقات سريعة. الأشياء التي يمكن أن تحصلوا عليها في الشهر الأوّل قد تحصلون أو لا تحصلون عليها في الشهر الثاني. والأشياء التي يمكن أن تحصلوا عليها في الشهر الثاني لن تحصلوا عليها بعد سنة. هذه تقديرات متفاوتة تزيد وتقصر من أجل القول إنّ عامل الوقت حاسم وهو في الغالب يسير في غير صالحكم. في قبال سلطة مصمّمة أنتم الحلقة الأضعف. الثورة أقوى فقط في حال كانت السلطة التي تواجهونها مترددة منقسمة على نفسها ولا تعرف ما تفعل. قد تغريكم الحالة الثورية ومدّها الآسر الجارف بهدم المعبد على حرّاسه. من حقكم أن تفكّروا بهذا الشكل؛ لكنْ خذوا الثورة مشروعاً للقرن وليس مشروع الساعات العشرين المقبلة. إنّ هذا يعني أن تعملوا على مراحل وعلى أهداف بعيدة وقريبة. خذوا وطالبوا. خذوا وطالبوا. خذوا وطالبوا. أنا مضطرّ لتكرار ذلك ثلاث مرّات للتشديد على هذا الأمر. ستتفاجأون بصعوبة التغيير حتى مع التخلص بالضربة القاضية ممن تعتقدون ـــ ومعكم كل الحق ـــ بأنهم أعداء ثورتكم أو السبب في مآسيكم.
2. لا بنك أعذار للعنف: اكسروا حلقة العنف ليس فقط بعدم ممارسة العنف أو تبريره؛ بل بجعْل خصمكم ـــ السلطة ـــ لا يمارسه ضدّكم. اسحبوا هذه الورقة تماماً، أخرجوها من المسرح. إن هذا يتطلب ألا توفّروا له ذرائع تحفّزه على ممارسة العنف. وأن تعملوا معه إذا تطلب الأمر من أجل إقناعه بشتى السبل بأن ممارسته غير ضروريّة. في كلّ انزلاق نحو العنف أنتم ــ القوى الثورية وشارعها ــ من سيخسر أوّلاً ويخسر أخيراً. أنتم ضحاياه لكن سيتم تحميلكم مسئوليّته. ومع مرور الوقت ستجدون أنفسكم أمام تداعيات أزمة إنسانيّة متفاقمة احتواؤها يفوق قدراتكم. إذا كان هناك شيء تجيد عمله الدولة التسلطيّة الحديثة فلن يكون هذا غير توظيف آلة العنف ومخلّفاتها لصالحها والتي لن تستطيعوا مضاهاتها فيه على الإطلاق. يسهم سقوط الضحايا ووجود المعتقلين والمُعذّبين والمُنكّل بهم في إدامة موجة السخط ومنح الثورة عمراً أطول. لكنّ هذا ليس له علاقة بتحقق مطالبكم أو لا. قد تخسرون الآلاف من أحبّتكم في ثورة طويلة هادرة لا تتحقق فيها مطالبكم أبداً.
3. الرّومانسيّة ليست الواقع: تفادوا المقاربات الشعريّة والاستعاريّة لثورتكم أو على الأقل كونوا حذقين لكَيْلا تصبح هي نفسها مطالبكم وخططكم. قصائد مثل “وللحرية الحمراء باب” و”إذا الشعب يوماً أراد الحياة” و”يعبرون الجسر خفافاً” و”أناديكم” و”سقطت ذراعك فالتقطها” و”المستحيل ممكن” و”حبوب سنبلة تموت” و”جيفارا مات” والجوقات والفرق الموسيقية وكل أغاني اليسار الحماسيّة والنوستالجية المُمِضّة قد تمنحكم جوّاً احتفالياً رائعاً آية في الجمال. صوراً ومقاطع خلّابة تحتاجونها لإثبات مستوى مدنيّتكم وحضاريتكم. لكن احذروا أن تخلطوا هذه الأمور مع أهدافكم وما يمكن أن تحققوه فعلاً في العالم الواقعيّ أو أن تنخدعوا بما تقترحه عليكم. غالباً فإنّ الشيء المتاح بين أيديكم والذي يمكن لكم أن تحقّقوه أقلّ بكثير جداً ممّا تتضمّنه هذه الأشعار والقصائد التي أُعدّت أساساً لتأثيث عالم ليس عالمنا: المخيّلة.
4. التفاوض في وقته: لا تتسرّعوا في التفاوض؛ لكن تفاوضوا. تأخّروا؛ ولكن ليس كثيراً. تسرّعكم قد يحرمكم من الحصول على أشياء يمكن الحصول عليها مع القليل من الصبر. وتأخّركم قد يحرمكم من ورقة التفاوض برمّتها وما يمكن لكم الحصول عليه لو أنكم بكّرتم قليلاً. غالباً ثمّة خيط رفيع يفصل بين “تسرّعتم كثيراً/ وتأخرتم كثيراً”. دعوا العقلاء منكم يقرروا ذلك: متى؟ استمعوا إلى العقلاء الذين قد ترونهم في أوقات الثورة ليسوا ثوريين بشكلٍ كاف. إذا خسرتم ورقة التفاوض ستنفقوا العمر المتبقّي من ثورتكم في البحث عنها. إذا باشرتم عملية التفاوض لا تغرقوا كثيراً في التعبيرات مثل هل نسمّي ما يجري “تفاوض” أم “حوار”. تخففوا من التفاصيل غير الضروريّة واذهبوا مباشرة نحو الهدف. ليكن شاغلكم الأكبر عند التحضير لأيّة عملية تفاوض أو حوار هو تحديد قواعده ومقاصده. حين تنجزون ذلك ليكن ما يكون مسمّى حاصل هذه العمليّة.
5. حكّموا العقل السياسي على الحقوقي: ستفرز الثورة مع الأيّام نوعيْن من العقول الفاعلة المنخرطة: عقل سياسي وعقل حقوقيّ. الأوّل واقعي والثاني حالم. الأوّل مرن والثاني صلب. الأوّل تفاوضي والثاني نصوصي حرفي. الأوّل جيوسياسي والثاني عولمي بعْدي. كِلاَ العقلين له دور مهم مؤثر وأتباع. مع التنبيه هنا إلى أنه ليس من الضروري أن تكون حقوقياً لكي تفكر بشكل حقوقي أو تكون سياسياً لكي تفكر بشكل سياسي. يكفي أن تنطبق عليك إحدى الأوصاف الواردة أعلاه لكي تكون منخرطاً تلقائياً داخل الحدود النموذجيّة لأحد هذين العقليْن. وجود الحقوقي ضروري لكي لا يفرّط السياسي في مطالبكم ووجود السياسي ضروري لكي لا يهلككم الحقوقي بمثالياته. افسحوا المجال لعمل كليْهما بالتّوازي؛ لا تعملوا بعقل واحد. لكن عندما يتعلق الأمر بصناعة القرار السياسيّ وخيارات ثورتكم امنحوا أفضليّة للسياسي على الحقوقي.
6. لا أعباء تفوق طاقتكم: إذا كنتم واقِعين في منطقة تقاطع النفوذيْن الإيراني – السعودي فمرحباً بكم في أفق الاستعصاء. أنتم واقعون في الحقيقة ـــ لسوء حظّكم ـــ في منطقة اشتباك قوّتين إقليميّتين أيديولوجيّتين هائلتيْن حدودهما الفعليّة تتجاوز حدودهما الجغرافية على الخريطة. كما ينقسم الشرق الأوسط كله إزاءهما والقوى العالميّة الكبرى إلى فسطاطيْن. لا تبالغوا كثيراً في تحميل أنفسكم أعباء مقارعتهما أو تغريكم اللافتات المتفائلة التي تبشّركم بقرب سقوطهما أو إحداهما على أيديكم. قد تتوافر لديْكم أسباب وطنيّة سياديّة ومحرّضات كثيرة للقيام بذلك. لكن كونوا حَسّاسين كثيراً لما يمكن أن تنجزوه فعلاً في أرض الواقع على هذا المستوى. “كونوا مستحيلين، اطلبوا أشياء واقعيّة”.
7. الدولة أفضل من اللادولة: ونصف الدولة أفضل من الفوضى. ستخرج باستمرار أصوات هدّها اليأس من إمكانيّة التغيير بالوسائل السياسيّة المتعارف عليها وأصبحَت كافرة بكل شيء إلى حدّ التفكير في خيارات مجنونة. اكفروا بكلّ شيء إلا الدّولة. هي “وحش بارد” و”زائدة دوديّة” قولوا فيها ما شئتم من نعوت تحقيريّة. لكنّ ما سيحصل عند فقدانها هو أنكم ستكونون أمام “وحوش باردة” كثيرة و”زوائد دوديّة” ملء البصر. أنتم أحرار في أن تخوضوا معركتكم ونضالكم في وجه “وحش” مفرد أو “وحوش” مجموعة. إنّ هذا ما يحصل عندما تنهار الدولة ويصبح المجتمع أقوى منها. المجتمع كوحدة إداريّة تنظيمية ليس أفضل من الدولة. تفادوا باستمرار خطأ عدم التفريق بين السلطة والدولة. إنّ أيّ شكل من أشكال الدّولة عقلانيّ وينبغي التمسّك به والبناء فوقه. لا تبدأوا من الصفر، لا تعيدوا اختراع العجلة.
8. الجغرافيا عقلانية: مع استمرار الثّورة ستبدأون في التمييز تدريجيّاً بين نوعيْن من الخطاب: داخليّ وخارجي. أولئك الذين يعيشون في الداخل وأولئك الذين يقيمون في الخارج. لا تكونوا حسّاسين لذلك. من حقّ الجميع أن يعبّر عن رؤيته لوطنه وما يريد منه. لكن عندما يتعلّق الأمر بسقفِكم السياسيّ؛ اصنعُوا ذلك داخلياً. داخل المجال العام، مجال الوطن وحدود سيادته. يمكن لثوريي الخارج أن يشاركوكم الثورة وأن يقدّموا مساهمات فاتنة على الصعيديْن الإعلامي والحقوقيّ لربّما تعذّر عليكم القيام بها أو بعضها في الداخل. لكن على الصّعيد السّياسي والتّوجيهي فإنّ أهل مكّة “داخلها” أدرى بشعابها من أهل مكة نفسهم “خارجها”. حتّى الثوري “المتطرّف” في الداخل مؤهل لتثمير رؤية واقعية وعقلانية للأوضاع أكبر من تلك التي لدى ثوري “متطرّف” في الخارج. “المتطرّف” هنا مجاز أعني به الشخص اللاّتفاوضي الذي يمتلك رؤى جذرية لكيفيّة حصول التغيير “أمعاء آخر ملك بأمعاء آخر قدّيس” لا الشخص الذي يتبنى أساليب العنف.
9. مصادر الدّعم داخلية: ستَرِدكم العديد من البيانات ومواقف الدعم. منظّمات غربيّة وهيئات أممية وروابط إقليميّة وبرلمانات وسفراء وخارجيّات دول كبرى وحتى من يلوّح بقرارات وعقوبات وإقامة محاكم دوليّة. هذه أشياء مهمّة لإشباع توقكم إلى المساندة وحاجتكم إلى نظام دعم “نفسي”. لكن لا تتوقّعوا منها أكثر من البيانات وحبرها. اِحمُوا أفق انتظاركم مبكراً من مفعولها السحريّ المخدّر الذي سيعيّشكم لحظات استيهاميّة بالغة الرّوعة خاصّة وأنتم في ذروة حراككم. في نهاية الأمر ستكتشفون أنّكم وحدكم مع الفيل في الغرفة. لذا ابدأوا من الآن بتحضير أنفسكم جيّداً للتعامل مع الأمر كذلك. لا أقول تجاهلوها أو ضعوا أنفسكم في مواجهتها. ليس هذا شغلكم ولا هدفكم. لكن تأكّدوا من أنّكم تدركون جيّداً حدود هذه البيانات ودورها والمواقف التي يمكن أن تَفيدوا منها أحياناً؛ وهي ليست كثيرة. مصدر دعمكم الحقيقي والقويّ هم أهل بلدكم. الساحات المليئة بالحشود هي ما يجلب مثل هذه المواقف والبيانات المتعاطفة. وحالما تفرغ الساحات أو تتقلّص أو تطول مدّة بقائكم فيها فأنتم لن تسمعوا بها خبراً. وحدكم: أنتم والفيل والغرفة.
10. أشياء لا تلزمكم: تخلّصوا من الاستغاثات وأساليب جلد الذّات مثل “أين العرب؟”. العرب منقسمون قطاعيّاً إلى تيّاريْن كبيريْن كلاهما مقتنع بوجود مؤامرة. الفرق فقط هو أنّ تيّاراً منهما يرى المؤامرة في مكان يراها التيّار الآخر في مكان آخر. القناعات متشكّلة بشكل صلب نهائيّ لذا يصعب اختراقها. تصرّفوا على أساس أنه ليس هناك رأي عام عربي. العرب الذين يعلنون تأييدهم لكم لايقومون بما يجب في سبيل تغيير بلدانهم؛ هذا إذا لم يكونوا يعادون التغيير من الأساس. والعرب الذين يقفون ضدكم يفعلون أشياء في بلدانهم يستنكرون عليكم أنكم تفعلونها في بلدانكم. ولدى كِلاَ “العَرَبَيْن” ألف سبب وسبب تبريري لذلك. تناقضات لن تفهموها على الإطلاق. المثقفون خصوصاً آخر فئة ينبغي أن تستمعوا لها أو تعيروها اهتماماً. هؤلاء في أذهانهم نوع من الثورة لا يوجد إلا في أفلام الخيال العلميّ. هم في الحقيقة استحالة أيّ ثورة. سيظلّون يعبّرون عن مواقف مترفّعة ومموّهة تصبّ في المحصّلة النهائيّة في خدمة النظام القائم إلى أن يسقط. ساعتئذ فقط ستحصل الانعطافة الكبرى ويميلون ميلتكم. ما لم يسقط النظام في الواقع فهم زبائنه. أنتم محظوظون إذا لم يكونوا زبانيته.