عباس المرشد- البيت الخليجي-
تتجه أنظار المعارضة البحرينية إلى مقاطعة الانتخابات النيابية المتوقع عقدها شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الجاري حيث لا جديد يمكن إضافته إلى المشهد السياسي المتأزم منذ بدء الاحتجاجات الشعبية مطلع العام 2011. يطرح هذا الاستنتاج تساؤلات عدة حول موقف مقاطعة الانتخابات لدى المعارضة البحرينية، على ماذا يستند هذا الموقف وما هي رهانات المعارضة؟ السؤال اللاحق، والأكثر حدة، يتمحور حول مدى واقعية تلك الرهانات والأسس التي يتكئ عليها موقف المعارضة؟
يقودنا جمعُ الإجابات المحتملة لقرار مقاطعة الانتخابات إلى الاقتراب من طريقة بناء الحجاج السياسي في مجتمع متأزم تنتابه متخيلات سياسية متعاكسة، فما هي طريقة بناء الحجج السياسية لدى قوى المعارضة وكيف تتشكل مخليتها السياسية للأهداف التي تسعى من أجلها وكيف يواجه بيت الحكم تلك الحجج السياسية وكيف يردُ عليها؟
في هذه المقالة سأكون معنيا بمحاولة فهم بعض الحجج السياسية التي تقف خلف قرار المعارضة الاستمرار في موقف مقاطعة الانتخابات مع الأخذ بعين الاعتبار أن المشاركة في انتخابات 2006 وانتخابات 2010 تعتبر استكمالا للحجاج السياسي الذي تأسس عليه موقف المقاطعة. بعبارة أدق، يمكن القول أن المعارضة في البحرين تعتقد أن مشاركة قسم من قوى المعارضة (جمعة الوفاق الوطني الإسلامية وجمعية العمل الوطني الديموقراطي) في الانتخابات كان يقف على أرضية حجج خيار المقاطعة وتقويتها، وبالتالي، يمكن القول أن قوى المعارضة لم تقدم في الأساس حججها السياسية للمشاركة.
في الحال البحرينية هناك مستويين من الحجاج السياسي تتقوى بهما المعارضة لتثبيت موقفها السياسي. المستوى الأول معني بصياغة حجج سياسية تستهدف الإقناع والإنجاز السياسي. والمستوى الثاني معني بالأخلاقية السياسية.
يقوم حجاج المعارضة على أن قرار المقاطعة سيحقق حزمة من الأهداف السياسية، أبرزها العمل على تصفير صناديق الانتخابات أو التأثير على نسبة المشاركة، ترشيحاً وترشّحاً. تحقيق هذا الانجاز من شأنه وفق قناعة المعارضة أن يزيد من الضغط الدولي على بيت الحكم وأن يفقد صفة التمثيل الشعبي وبالتالي خدش شرعيته السياسية حسب اعتقادها. يمكن القول أن مقاطعة الانتخابات، كما تراها المعارضة، تعني نزع شرعية العملية الانتخابية، وبالتالي نزع شرعية المؤسسات السياسية القائمة التي لا تتمثل المعارضة فيها. تحاول في هذا السياق أن تفرض حالة من العزلة السياسية على بيت الحكم. هذا الوضع المتخيل يؤدي وفق خطاب المعارضة على المدى البعيد، إلى رفع نسب احتمال التوصل إلى تسوية سياسية مرضية مع بيت الحكم.
عملياً وقبل كل شيء، تتطلب واقعية خطاب مقاطعة الانتخابات الحجاجي قدرة تنظيمية بين قوى المعارضة نفسها بالاضافة إلى قدرة تعبئة جماهيرية تنفذ تلك المقاطعة على أرض الواقع. من جانب أخر وأكثر أهمية، فإن القدرة على خفض نسبة الاقتراع ورفع جاهزية قوى المعارضة التنظيمية لا يبدو أنه منجز سياسي قادر على تلبية أهداف المعارضة، ما لم يكن متلائماً مع ردة فعل بيت الحكم وكيفية تعاطيه مع حالات المقاطعة والضغوط السياسية المترتبة عليها، فضلاً عن مقدرته الواضحة على تحمل تآكل الشرعية السياسية الداخلية. بعبارة أدق فإن سلوك بيت الحكم هو الرهان الأكثر تأثيراً من بقية رهانات حجاج قوى المعارضة. وفيما يتصل بتجربة نظام الحكم في البحرين فإن مقاطعة الانتخابات لا يبدو أنها تمثل تهديداً حقيقياً له إن لم تكن خياره الأفضل حالياً وفي المدى المتوسط، بحسب دراسة تفضيلاته السياسية السابقة أو تلك اللاحقة على أحداث 2011.
بدورها تدرك قوى المُعارضة أنها تواجه نظاما عصياً يعمل على زيادة سلطته وتهميش المعارضة. وهو يحظى إلى جانب ذلك، بغطاء دولي وإقليمي يعفيه عن تلقي أي ضغوط سياسية فعلية. يقودنا ذلك إلى أن حجاج خطاب المقاطعة لدى قوى المعارضة يستند إلى رؤية متماسكة وقوية نظرياً، لكنه من جهة أخرى، يتكئ على ترجيحات سياسية غير مؤكدة إذا ما وضعت أمام طبيعة بيت الحكم وسلوكه السياسي.
الأخلاقية السياسية
نتيجة الانقسام الداخلي بين قوى المعارضة وعجزها عن بلورة توقعات سياسية واضحة فيما بينها، تصبحُ القضية الأخلاقية مهيمنة على تقدير الموقف. وبالتالي على مسار التفضيلات السياسية المتعلقة بالانتخابات والموقف منها. يتأكد هذا لدى مراجعة خطاب الجزء الأكبر من المعارضة عندما قررت جمعية الوفاق وبعض الجمعيات السياسية المشاركة في انتخابات عام 2006 وتصدير الخطاب السياسي الداعي للمشاركة بعنوان أخلاقي هو “دفع الضرر”. هذا العنوان يوحي بأن المشاركة لم تكن سياسية بامتياز بل كانت عبارة عن مزيج بين السياسة وبين نزوع أخلاقي سياسي. إن فكرة الأخلاقية السياسية تعيد انتاج نفسها في الدفع بالمقاطعة أيضا في انتخابات 2014 وما تلاها من انتخابات، وهي منتج طبيعي للاستحقاقات المترتبة على أحداث 2011 وما تلاها. ولهذا، فإن قسماً كبيراً من المعارضة سينظر إلى المشاركة على أنه خيانة وانهزام وغيرها من التوصيفات الأخلاقية المتضادة مع البراغماتية.
سيكون على الراغبين في المشاركة الانتخابية التضحية بالنزعة الأخلاقية وتغليب السياسة، وهو أمر يصعب تحققهُ في ظل الأوضاع المعقدة سياسياً وفرض قانون العزل السياسي (قانون يمنع البحرينيين من أعضاءً الجمعيات السياسية المنحلة من مباشرة حقوقهم السياسية) وبقاء القيادات السياسية المعارضة في السجون.
هل يعني ما تقدم أن تقدم المعارضة على المشاركة المجانية في الانتخابات النيابية المُقبلة أو أن تعلن عن استسلامها سياسياً والقبول بالعروض المتوفرة حالياً؟ أم أن عليها أن تعيد بناء حجاجها السياسي بما يقوي فرص تحقيق أهدافها المتوسطة والبعيدة وأن يكون تقدير موقفها السياسي معتمداً على تصور دقيق لسقف التوقعات؟ يدفع البعض من البراغماتيين إلى الاتجاه الأول فيما يرى البعض الآخر أن ما تحتاجه المُعارضة هو الاتجاه الثاني انطلاقاً من أن سياق الحُجج التي صيغت منذ 2011 فقدت بريقها السياسي تماماً.