ناشونال إنتريست-
مرّ عامان على توقيع اتفاقيات إبراهيم التي طبعت فيها دول عربية علاقاتها مع إسرائيل، وهي اتفاقيات يرى الباحث في جامعة جورج ميسون جون هوفمان أنها مفروضة من الأعلى للأسفل ولن ينتج عنها سوى عدم الاستقرار وليس السلام. وقال إن المسؤولين والمعلقين الأمريكيين لا يزالون يكيلون المديح للاتفاقيات وما جلبته من إطار جديد للسلام وتعزيزها للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
وقد تمت المصادقة على الاتفاقيات أثناء إدارة دونالد ترامب، وتبنتها إدارة جو بايدن، وشملت تطبيعا رسميا بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان والمغرب. وتم الترويج لها كإطار للأمام من أجل حل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، وكدليل جديد للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط. وكآلية وافق عليها الحزبان في واشنطن لنشر السلام والأمن.
واستخدم الحزبان الجمهوري والديمقراطي في مجلس النواب والشيوخ الاتفاقيات للحديث عن الفرصة التاريخية “لتغيير” الشرق الأوسط والدفع باتجاه “اتفاقية سلام دائم وغير مسبوقة تجعل أمريكا والعالم أكثر أمنا”. وفي الذكرى الثانية للاتفاقيات قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن إن إدارة بايدن لا تزال مستمرة في عمليات التطبيع التي تخدم “الأمن الإقليمي والازدهار والسلام”.
ورغم المديح العالي لها، إلا أن اتفاقيات إبراهيم لا تدعم السلام ولا المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. وبالتأكيد، فهي تمثل تطبيعا سياسيا واقتصاديا وأمنيا بالإكراه للحفاظ على الوضع القائم وتهميش الفلسطينيين والرأي العام العربي، والدفع من أجل تطبيع على مستوى عال. وهي إطار لتشكيل تحالف إقليمي يقوم من خلاله اللاعبون بالحفاظ على الوضع الراهن ودعم المصالح الأمريكية.
ويقول هوفمان إن “النظام هو بنية مصطنعة مدعومة فقط من خلال الاستثناء المكثف، القمع والرقابة والضمانات الأمنية من القوة العظمى الأولى”. وفي ظل المخاوف من تراجع اهتمام واشنطن بالمنطقة وتركيزها الجديد على شرق أوروبا وآسيا، فالاتفاقيات مصممة للحفاظ على أمريكا كضامن أمني في الشرق الأوسط.
في ظل النظام الجديد، بات نظام الفصل العنصري ونجاة الاستبداد العربي مرتبطين. وتقود رابطة الأبارتايد- الاستبداد، الشرق الأوسط إلى عالم استعبادي وقمعي، وتؤكد الديكتاتورية في المنطقة، وهيمنة إسرائيل على فلسطين.
وتصميم اتفاقيات إبراهيم والترويج لها كآلية لدعم السلام، هي محاولة لحرف النظر عن الدور الرئيسي لهؤلاء اللاعبين في زعزعة استقرار المنطقة. ويعتقد الكاتب هوفمان أن الدعم الأمريكي الثابت لهذه النظام، هو أمر خطير لأنه يغطي على المصادر الحقيقية الكامنة لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط وتفاقم من مشاكل المنطقة وتفشل في دعم المصالح الأمريكية.
ومع أن اللاعبين الرئيسيين في المنطقة والكثيرين في الغرب يحاولون تصوير الاتفاقيات على أنها “اختراق في العملية السلمية” إلا أن تحت السطح منطقة معرضة لمزيد من عدم الاستقرار، مما يزيد من مخاطر التزام واشنطن بفرض نظام مصطنع وغير دائم على الشرق الأوسط. وعندما أعلن عن اتفاقيات إبراهيم أكد الموقعون عليها أنها إعلان تاريخي سيكون أداة “للحفاظ على وتقوية السلام في الشرق وحول العالم وتقوم على الفهم المتبادل والتعايش”.
وقال السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، إن الاتفاقيات منعت مزيدا من الضم الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية، وأنقذت حل الدولتين للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني وتمثل ما وصفه بأنه “أكبر تنازل تم التوصل إليه للقضية الفلسطينية منذ عشرين عاما”.
وقال جارد كوشنر، أحد مهندسي الاتفاقيات بأنها خلقت “معيارا جديدا” وشدت خيال العالم والمنطقة. مع أن هذه التصاوير خاطئة، لأنها لم تستبعد فقط الفلسطينيين بشكل كامل من المفاوضات، بل لأن أيا من الدول العربية التي وقعت عليها لم تكن أبدا في حالة حرب مع إسرائيل، بشكل يثير سؤالا حول طبيعة السلام هذا ومع من؟”. و”لم يتم تصميم اتفاقيات إبراهيم من أجل الدفع بحل حقيقي للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني أو سلاما في عموم الشرق الأوسط”، وخلافا لهذا فقد أقيمت على آلية لدعم مصالح دول بعينها.
ورغم العلاقات السرية بين إسرائيل والدول العربية التي تعود إلى عقود إلا أنها تطورت للعلن بعد انتفاضات الربيع العربي عام 2011، وتوجت باتفاقيات إبراهيم عام 2020. ومثّل الربيع العربي تهديدا سياسيا واقتصاديا وعسكريا للنخب في الشرق الأوسط التي انتفعت تاريخيا من النظام اللاليبرالي وتوازن القوة في المنطقة. وبالنسبة للمستبدين العرب، فقد مثّلت ثورات الربيع العربي ضربة لشرعية الأنظمة العربية، حيث أنهت أنظمة وشهدت دول العالم العربي شكلا من أشكال المطالبة بالتغيير السياسي والاقتصادي. وكانت التهديدات المباشرة مترابطة واستثنائية ليس لأن لأنها مثلت تهديدا مباشرا لعدد من الحكام ولكن للنظام الإقليمي الأوسع.
ولم تهدد الثورات إسرائيل بشكل مباشر، إلا أنها نظرت إليها كتهديد لمصالحها. وخافت من فراغ السلطة بعد انهيار المستبدين الذين حكموا طويلا واستغلال أعدائها مثل إيران الوضع لتعزيز مصالحها. بالإضافة لهذا، فهناك مواقف مشتركة بين إسرائيل والأنظمة المستبدة في العالم العربي من ناحية الثورات المضادة، وعملت إسرائيل في الفترة التي تبعت الانتفاضات مع الأنظمة العربية على حملة قوية للحفاظ على مستوى القوة في المنطقة ولمنع ظهور أي معيار ديمقراطي شعبي بالمنطقة.
ولأن إسرائيل هي قوة الوضع القائم في الشرق الأوسط، فالمخاوف من ظهور حكومات شعبية محاسَبة أمام شعوبها، ومطالب بحل حقيقي يضمن حقوق الفلسطينيين. وتنتفع إسرائيل من غياب النظام الديمقراطي في الشرق الأوسط من أجل حشد الدعم الخارجي لها. فمن خلال تصوير نفسها بأنها في موقع الدفاع عن نفسها “في حي صعب”، نجحت إسرائيل بتصوير نفسها بين أنصارها في الغرب كضحية. وبدا ذلك واضحا من كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك، حيث قال: “هؤلاء (المستبدون) كانوا مسؤولين عن استقرار المنطقة وهم مريحون لنا أكثر من الشعوب في الشوارع بنفس البلدان”.
وفي هذا السياق، يحضر موضوع الفلسطينيين الذي خدم كعائق للتقارب، وتم التخلي عنه في محاولة من النخب المستبدة الحفاظ على الوضع الراهن كأولوية لهم. ويجب النظر لاتفاقيات إبراهيم على أنها عملية تطبيع من الأسفل للأعلى بين الدولة الصهيونية والرأي العام العربي، بل كنظام مفروض من الأعلى للأسفل بين إسرائيل ودول عربية عدة تريد تحقيق أهدافها.
وفي مرحلة ما بعد 2011، نظرت الأنظمة العربية للقضية الفلسطينية كعائق أمام تحقيق أجندتها. وعليه، فاتفاقيات إبراهيم هي “نتاج جهود للحفاظ والترويج للقوة وليس السلام. وعمليات تطبيع على مستويات عالية أدت إلى تجاهل كامل للرأي العام العربي وأهداف الشعب الفلسطيني. وقُصد من الاتفاقيات أنها محاولة لتقوية الوضع القائم، والحفاظ على هيمنة إسرائيل على الفلسطينيين وحرف النظر عن جذور المشاكل في الشرق الأوسط والدور الرئيسي الذي يلعبه المشاركون فيها بحالة عدم الاستقرار.
وزادت المشاكل الأصلية سوءا في السنوات الأخيرة، لأن الاتفاقيات جرّأت اللاعبين وسمحت لهم بمتابعة أجندتهم الشخصية. وتم الترحيب بها في واشنطن على أنها تعبير عن سلام غير موجود. وشهد الشرق الأوسط عودة للديكتاتورية ومتابعة للمصالح الشخصية المستعدة لقمع أي رأي يتحداها، كما منحت اتفاقيات إبراهيم الدول العربية المستبدة آلية للتقرب من واشنطن من خلال التطبيع مع إسرائيل ومتابعة أجندة القمع في بلدانها.
ونقلت الأنظمة جهودها القمعية إلى الخارج، واستهدفت المعارضين والناقدين لها حول العالم، وفي نفس الوقت، حشدت جهودها لتفعيل اللوبي الصهيوني في واشنطن لإعادة تأهيل صورتها والدفع بالأجندة المتبادلة في المنطقة. وأصبح الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية أكثر كثافة، وعزلت إسرائيل الفلسطينيين كنتيجة مدروسة لاتفاقيات إبراهيم.
ولم يتوقف بناء المستوطنات، كما زاد عنف المستوطنين في الضفة الغربية، وواصلت إسرائيل قصفها العشوائي لغزة الذي ينتج عنه قتل الأطفال والنساء.
واتهمت منظمات “أمنستي إنترناشونال” و”هيومان رايتس ووتش” و”بيتسليم” والمقرر الأممي للحقوق الإنسان مايكل لينك، إسرائيل بارتكاب جريمة الفصل العنصري، وطالبت بعمل دولي ومواجهة “نظام القمع والهيمنة المنظم”. كما وصفت الولايات المتحدة بـ”الغريبة”.
وفي الفترة الأخيرة، استهدفت إسرائيل الصحافية الأمريكية- الفلسطينية شيرين أبو عاقلة. وعدم تحرك أمريكا، عزز من فكرة إفلات إسرائيل من العقاب. ولعبت اتفاقيات إبراهيم دورا في تعزيز التعاون الأمني والرقابة وحملات القرصنة الإلكترونية. ومن منظور واشنطن، فهذا النظام هو تتويج لسياسة أمريكية طويلة، تقوم على عمادين رئيسين: الدعم المطلق لمستبدين مختارين من العرب بناء على أسطورة “استقرار المستبدين” والدعم الذي لا يتزعزع لإسرائيل.
فمن الحرب الباردة وأثناء الحرب على الإرهاب، وبعد انتفاضات الربيع العربي، رأت واشنطن أن مجموعة من الدول العربية المستبدة وإسرائيل تمثل ضمانا للنظام الإقليمي. وتمثل اتفاقيات إبراهيم في هذا السياق، محاولة أمريكية لدمج هذين العمادين، وهو هدف لم يكن قابلا للتحقق بسبب معوقات عدة، وبالتحديد حل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. ودعم طرفا الكونغرس الاتفاقيات رغم كونها إرث من فترة دونالد ترامب. وفي الوقت الذي دعم فيه بايدن عمليات التطبيع، وحاول توسيعها، إلا أنه رفض إلغاء قرارات لترامب، مثل الإعلان عن شرعية المستوطنات، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
ورأى الكثيرون في واشنطن أن اتفاقيات إبراهيم هي محاولة لدعم المصالح الأمريكية وسط جهود الانسحاب من المنطقة. ورأت ياسمين فاروق أن تشجيع واشنطن الشركاء في المنطقة على تطبيع العلاقات، هي محاولة منها لإعادة توزيع العبء الأمني ضمن نظامها المتكامل على عدد من حلفائها بالمنطقة، وهي إطار رسمي لدعم المصالح الأمريكية وسط التنافس الإقليمي والدولي.
ويبدو أن اتفاقيات إبراهيم هي أساس لمزيد من الالتزام الأمريكي بالمنطقة. وفي الفترة الماضية، تحدث وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس عن شبكة دفاع إقليمية أسماها “التحالف الجوي الدفاعي للشرق الأوسط” وبدعم أمريكي. ولم يقدم معلومات عن التحالف الذي قال إنه فاعل ويضم إلى جانب إسرائيل الإمارات ومصر والبحرين والسعودية. وجرى تقديم مشروع قرار في الكونغرس بدعم الحزبين يقضي بتوفير الحماية للشركاء وشبكات التحالف في المنطقة التابعة لهم.
وفي النهاية، فالتزامات أمريكية جديدة في المنطقة تعني زيادة التظلمات التي قادت للربيع العربي. وطالما واصلت واشنطن تقديم ضمانات للدول التي تعمل على زعزعة استقرار المنطقة. والأسوأ من كل هذا، هو أن الولايات المتحدة تواصل تزويد هذه الدول بالأسلحة المتقدمة، متجاهلة السياسات القمعية لهذه الدول والتدخل في سياسات الدول الأخرى. كما تواصل هذه الدول سياسات تقع على النقيض مع المصالح الأمريكية بشكل سيقود إلى العنف والتوتر.
وفي هذه الحالة، فالشرق الأوسط يتحول إلى منطقة استعبادية وقمعية وغير مستقرة. وأي سلام يقوم على استعباد الشعوب وقمعها، سواء الفلسطينيين أو الشعوب العربية الأخرى، هي وصفة لعدم الاستقرار. ومن هنا، فالتزام واشنطن الذي لا يتهاون باتفاقيات إبراهيم سيجرها إلى دور أكبر في منطقة متفجرة ويدفعها للدفاع عن شركاء مثيرين للمشاكل.