أنهى النظام البحريني انتخاباته النيابية والبلدية بالصورة التي أرادها: بلا مُعارضين أو جمعيات سياسية، بلا كتلة ناخبة حقيقية. الساحة له وحده كي يُواصل منهج نسْف حقوق الشعب وتعظيم سلطة الملك وصلاحياته المطلقة. بعد الاستحقاق المُنجَز، يحتفل الملك بتجديد البيْعة له وفق الخطّة التي رسمها: عزلُ نحو 80 ألف شخص بسبب انتمائهم إلى جمعيات منحلّة، وشطْب أكثر من 30 ألفاً ممّن قاطعوا الانتخابات الماضية، وتقسيمٌ مشبوه للدوائر وصولاً إلى الاعتماد بشكل أساسي على المُجنَّسين والعسكريين. النتائج المتوخّاة من العملية الانتخابية محسومة في أجندة آل خليفة؛ استُهلّت بنسبة تصويت بعيدة كلّ البُعد عن نسبة المُقاطعة الفعلية التي سُجّلت في يوم الانتخاب (12/11/2022). تدّعي السلطة أن الإقبال كان كثيفاً وغير مسبوق، ولم يحصل منذ عام 2002. لا نقاش في أن «الماء تكذّب الغطاس»، والحال مع البحرين يُشير إلى أن الميدان الشعبي وسُخط عشرات آلاف المواطنين وعزوفهم عن المشاركة في المهزلة التي جرت، يؤكد انسلاخ النظام عن الواقع تماماً.
بعد محطّة السبت، عيْن الملك على ما هو أبعد. ماذا يَحبِك عبر مجلس النواب الجديد؟ حتماً، لسنا أمام خريطة تشريعية وإصلاحية قادمة في البحرين، فتفكير الحاكم في مكان آخر. لا مشاريع خدماتية شعبية أو تراجع عن الضريبة العامة التي أقرّها مجلس 2014 للمرّة الأولى، بل المخطّط يجنح إلى خارج حدود المملكة الخليجية: الارتماء في الحضن الإسرائيلي حتى الثمالة. يُجمع مَن يواكب قطار التطبيع في المنطقة على أن البحرين تتفوّق على الدول التي سبق وشرّعت علاقتها مع كيان الاحتلال. الاندفاعة الرسمية في المنامة باتّجاه تل أبيب ومسؤوليها تكاد تكون الأنشط. اتّفاقيات ومعاهدات متتالية وزيارات لشخصيات بحرينية إلى الأراضي المحتلّة، وشراكة مع العدو في مجالات الاقتصاد والمال والطب أيضاً. اليوم، تتحضّر السلطات للإعلان عن «لجنة الصداقة البحرينية - الإسرائيلية» بعد انتهاء الانتخابات، حيث ستكون مهمّتها الرئيسة تنظيم جولات مُتبادلة بين مجلس النواب و«الكنيست»، على أن تُديرها الشعبة البرلمانية في المملكة الخليجية.
بحسب ما هو مرسوم، لن يستطيع أيّ نائب تجاوُز «وحْل» التطبيع؛ فهو مُجبَر على الانصياع تماماً لأوامر الملك المعظَّم (وفق المناداة الرسمية في الدولة). الأخير، الذي يُسيطر بالقوانين التي يُكرّسها في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، سيوعز ببدء رحلات «الحجّ» إلى «الكنيست» وبشكل دوري، ليُمسي مجلس النواب مُستنقعاً للتطبيع. وخلافاً للحرية الممنوحة للنواب في الدول الأوروبية في الرفض أو القبول، لن يكون النائب البحريني مُخيّراً أمام أمرِ زيارة الأراضي المحتلة. السابقة هنا هي مسألة إجبار أعضاء البرلمان على لقاء الصهاينة، وهذا ما يؤكد أن النائب في المنامة يعيش على التهديد والترغيب، ما يحمله بالطبع على أن يستجيب وفقاً لطبيعة الوضع القائم، أيْ القمع والحالة الأمنية.
قد يكون ما حصل في «مجمع السلمانية الطبّي» قبل أشهر قليلة، أحدث مثال على فرض التطبيع بالقوّة. هناك، أُجبر الرئيس التنفيذي للمستشفيات الحكومية، أحمد الأنصاري، على استقبال وفد من «مركز شيبة» الطبّي الإسرائيلي بهدف التعاون المشترك والتدريب والتعليم الصحّي لتطوير مستوى الخدمات في مستشفيات المملكة. سيناريو الإكراه تَكرّر مع وزيرة الصحة، جليلة بنت السيد جواد حسن، التي استقبلت سفير الاحتلال في المنامة إيتان نائيه، ووزير الكهرباء وائل بن ناصر المبارك، الذي التقى أيضاً نائب وزير الخارجية الإسرائيلي عيدان رول. كذلك الحال مع رجال الأعمال الصهاينة الذي يحطّون في المنامة من أجل تثبيت شراكة مالية واقتصادية وتجارية وزراعية مع الشركات البحرينية.
بعد انتخابات البحرين الصُورية، يكتمل المشهد التطبيعي. صحيح أن الملك ألغى دور البرلمان في الاطّلاع على «اتفاقية أبراهام» التي وقّعها النظام مع إسرائيل عام 2020، إلّا أنه سيُحييه مجدّداً من أجل غاية واحدة: حُبّ إسرائيل. لهذا، تتحدّث التسريبات عن أن فريقاً من الأمانة العامة لمجلس النواب البحريني سيُسافر في الفترة القادمة إلى تل أبيب للاطّلاع على تجربة «الكنيست». ما يدعو إلى السخرية في هذه الخطوة، محاولة الملك الاستفادة من العملية التشريعية في «الكنيست». بمعزلٍ عن عداوة الصهاينة والتعدّدية الحزبية الموجودة لديهم، من يُصدّق أن البحرين الرسمية تتعلّم من تجارب الآخرين؟ هل تفقه الدولة القمعية معنى الديموقراطية في الأصل؟ أتسمح للأحزاب السياسية بالمشاركة في الانتخابات في الأصل؟ ماذا أصاب آلَ خليفة حتى فجأة أرادوا الانتفاع من أداء «الكنيست»؟ ألَمْ تَعُد هناك خيارات أمام البحرين لدولٍ ديموقراطية وعادلة كي تتطلّع وتتدرّب على الإصلاح السياسي؟
على الرغم من مرور سنتيْن على توقيع اتّفاق الخيانة مع إسرائيل، يبدو حتى الآن أن سفارة الاحتلال التي افتتحها وزير خارجية العدو، يائير لابيد، بتاريخ 30/9/2021، ضائعة. وفق المعلومات المتداولة، مسؤولو السفارة يسكنون في البرج المالي في المنامة، وليس هناك من مبنى مُحدَّد لهم. المعطيات الأخيرة تتحدّث عن ترجيح كبير لإمكانية أن تكون الدولة البحرينية قد منحت أرضاً للصهاينة كهِبة من الملك ليبنوا عليها سفارتهم، لكن إلى الآن يبقى المكان مجهولاً، ربّما خوفاً من ردود الفعل الشعبية المعارضة للتطبيع. هو سباقٌ نحو الذلّ ليس إلّا، إذاً. الملك البحريني واقعٌ في حبّ الصهاينة ومغشيٌّ عليه. يدرس مبادراته نحو العدو بعنايةٍ كي يرضى عنه. الأهمّ بالنسبة إليه قُربه من الحضن الإسرائيلي لا شعبه، مهما كلّف الأمر من إكراه وضغوط على موظّفيه وأدواته.
لطيفة الحسيني-