محمد كريشان- القدس العربي-
بغض النظر عما ستفسر عنه التطورات الجارية حاليا بعد عملية «طوفان الأقصى» الجريئة وغير المسبوقة وما أعقبها من رد إسرائيلي جنوني على قطاع غزة في عملية «السيف الحديدي» فقد استقرت نهائيا تقريبا جملة قناعات فرضت نفسها عبر عقود على الفلسطينيين خصوصا والعرب عموما. قناعات تحوّلت مع السنوات إلى ما يشبه الايمان الديني المغلق:
لا أمل أبدا في أي تسوية سياسية سلمية مع إسرائيل التي لا تفهم إلا لغة القوة. لا أمل أبدا في انتظار أن يكون القانون الدولي والشرعية الدولية هي المرجعية الفصل في التعامل مع الملف الفلسطيني بعد أن باتت مستفزة وصاخبة ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الدولية المختلفة.
لا أمل أبدا في موقف سياسي منصف أو متوازن من واشنطن مهما تعاقبت إداراتها بين جمهوري وديمقراطي. لا أمل أبدا في موقف مماثل من الدول الغربية أو ما يسمى اصطلاحا بالمجتمع الدولي. لا أمل أبدا في انتظار أي شيء من المؤسسة الرسمية العربية لأنها متخاذلة والأرجح متآمرة.
قد لا يكون الإشكال في وجود قناعات واسعة الانتشار كهذه وإنما في خطورة ما ستؤدي إليه من تداعيات معقدة قد لا يكون من السهل على الإطلاق التعامل معها أو احتوائها، من بينها حاليا على الأقل:
الإفلاس الكامل والنهائي للسلطة الوطنية الفلسطينية ولخطاب التهدئة والتسوية الذي تدافع عنه باستمرار والذي لم تعد له أي جدوى أو مصداقية. ومن الصعب على هذه السلطة في الفترة المقبلة أن تكبح جماح من يريد من أبناء الضفة من المقاتلين أن ينسجوا على منوال ما فعلته «حماس» من إنجاز عسكري كبير.
تقدم «حماس» من الآن فصاعدا على باقي الفصائل في كسب عقول وقلوب العرب، والفلسطينيين في المقام الأول، وخاصة على «فتح» بكل تاريخها النضالي المسلح.
وكما كان الأول من يناير/كانون الثاني 1965 شرارة صدارة «فتح» للمشهد الفلسطيني المقاوم أصبح تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول الحالي تاريخ تصدّر «حماس» بسياق أكثر درامية، حتى وإن كان بفاتورة دامية جدا على قطاع غزة وأهلها.
سقوط مدوّ، ولفترة طويلة، للخيار السلمي التوافقي والتفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين فبعد أن ظن نتنياهو وتحالفه المتطرف العنصري أن الأمور استتبت لهم بمزيد من القوة والقمع جاءت عملية «طوفان الأقصى» لتظهر أن هذه السياسات الإسرائيلية لن تفرض الاستسلام على الفلسطينيين بل ستزيد في إذكاء نزعة الرد العسكري المتواصل بمعناه الواسع أو بصيغة العمليات الفدائية المتعددة في أماكن مختلفة.
الجمود المتوقع لمسار التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل رغم كل الضغوط الأمريكية إذ لم يعد بمقدور عدد من العواصم العربية، سواء التي طبّعت أصلا أو كانت في طريقها إلى ذلك، أن تجد أي مبررات ـ مهما كانت هزيلة ـ تقدمها لاستمرار هذا النهج الذي سيستنزف، بالمناسبة، أي رصيد لها بين أبناء شعبها وسيضر بسمعتها في المحيط.
الصعوبة المتناهية التي ستجدها واشنطن في المرحلة المقبلة إن هي قررت المضي قدما في محاولة توسيع ما يسمى «معسكر السلام» العربي من خلال «اتفاقات أبراهام» التي ستدخل حاليا غرفة الإنعاش لفترة قد تطول.
كما أن واشنطن فقدت، وربما إلى الأبد، أي وجاهة سياسية أو أخلاقية تجعلها قادرة على تقديم نفسها وسيطا قادرا على الدفع بأي تسوية تضمن الحد الأدنى من شروط التسوية المتوازنة أو العادلة.
خاصة وأن مواصلة الحديث عن «حل الدولتين» لم تعد له أي مصداقية أو قيمة يعتدّ بها، بعد أن تحوّل إلى نوع من الخداع والضحك على الذقون لأن مثل هذا الحل يفترض بداهة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وهو ما لا أحد يسعى إليه بالمرة مع أنه يتحوّل إلى نظام فصل عنصري واضح.
في النهاية، ما الذي يمكن أن تفرزه صورة كهذه سوى نفض اليد بالكامل من المشهد الحالي وعدم الالتفات للقانون الدولي والشرعية الدولية وإنصاف الدوائر الغربية وإعلامها، والتوجه بكل قوة إلى قلب الطاولة على الجميع، خاصة عندما يتم الإطباق الكامل على قطاع غزة لخنقه من جميع الجهات، ومواصلة تدميره كليا وقطع الماء والكهرباء عنه ومنع وصول أي إمدادات غذائية أو إنسانية له؟
ما الذي يمكن توقعه سوى ازدياد البون اتساعا بين الأنظمة العربية ورأيها العام في كل ما يتعلق بالتعاطي مع هذا الملف؟ وما الذي يمكن انتظاره سوى تواري كل من يحاول في الساحة الفلسطينية أو العربية الترويج لضرورة التهدئة مع إسرائيل والتواصل معها فما بالك بإقامة علاقات اقتصادية وأمنية معها؟
قبل خمسين عاما تقريبا وقف الزعيم الراحل ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قائلا للعالم بأسره إنه جاء إليهم حاملا بندقية الثائر في يد وغصن الزيتون في يد، طالبا منهم ألا يسقطوا غصن الزيتون من يده، فلم يفعلوا سوى إسقاط ذلك الغصن ورفسه تحت الأرجل، ما أعاد الاعتبار للبندقية وحدها. على العالم كله أن يواجه هذا الوضع الآن، علّه يعود إلى رشده.