الخليج أونلاين-
تُعد شعوب دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي من أكثر الشعوب انسجاماً في العالم، إذ تجمعها عوامل جغرافية وثقافية واجتماعية ودينية ولغوية وتاريخية، ولا يكاد القادم من خارج تلك الدول يُفرّق بين أبنائها لكثرة القواسم المشتركة.
الشيء الوحيد الذي فرّق تلك الشعوب مؤخراً هو السياسة، خصوصاً بعد نشوب الأزمة الخليجية وحصار قطر من قبل السعودية والإمارات والبحرين، في يونيو 2017.
وسعى الجيل الأول من حكام هذه المنطقة النفطية لتشكيل هيكل سياسي يُمكّن تلك الدول من تحقيق الحد الأدنى من التوافق السياسي؛ سعياً للوصول إلى الحد الأعلى وتحقيق وحدة في شكل من أشكال الاتحاد الذي يحاكي تجربة الاتحاد الأوروبي، وبناء على ذلك أبصر النور "مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، عام 1981.
المسيرة الحافلة والخطوات التي قطعتها دول الخليج للوصول إلى الغاية المنشودة على مدار ثلاثة عقود باتت في مهبّ الريح؛ أمام السلوك السياسي للجيل الجديد من الحكام الذي كان يعوّل المراقبون على كونه شاباً ومواكباً للحداثة السياسية والمعرفية في عالم يتكتّل فيه المختلفون سعياً وراء القوة، التي أصبحت ضرورية لمواجهة المخاطر والتحديات التي تتربص بالدول.
سياسات محمد بن زايد، الحاكم الفعلي لدولة الإمارات، والتي باتت تتبعه فيها السعودية تحت ولاية عهد محمد بن سلمان، نزعت فاعلية المجلس وجعلت جدوى وجوده محل جدل، بعد أن أصبح مثخناً بالأزمات.
وبدأت تلك الأزمات بكارثة حرب اليمن، مروراً بحصار قطر والأزمة الخليجية المفتعلة، ثم أزمة اغتيال الكاتب الصحفي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده بإسطنبول، وجميعها جعلت استمرار المجلس ككيان على المحك.
أبوظبي تتجسس على مسقط
ومن السياسات التي زعزعت استقرار دول المجلس قيام دولة الإمارات بالتجسس على سلطنة عُمان، منذ 2011، حين تدخل أمير دولة الكويت، الشيخ صباح الأحمد الصباح، لاحتواء أزمة تسبّب بها اكتشاف السلطات في مسقط خلية تجسس تتبع الإمارات اخترقت مواقع عليا في الدولة بهدف إسقاط السلطان قابوس، والعمل على تنصيب شخص يوالي أبوظبي في الحكم.
وأعلنت الحكومة العُمانية حينها تفكيك شبكة التجسس التي تتبع جهاز أمن الدولة الإماراتي، مشيرةً إلى أنها كانت تستهدف نظام الحكم في البلاد، وآلية العمل الحكومي والعسكري في السلطنة.
ورغم احتواء أمير الكويت للأزمة التي كادت تفكّك مجلس التعاون الخليجي حينها؛ عبر اصطحاب بن زايد إلى السلطنة وتقديمه اعتذاراً مباشراً للسلطان قابوس، فإن الأزمة عادت لتطلّ برأسها من جديد؛ بعد أنباء تحدثت عن محاكمة خلية تجسس جديدة أمام القضاء العُماني.
الصحفي العُماني المختار الهنائي، كشف عبر حسابه في موقع التدوينات القصيرة "تويتر" عن محاكمة خلية تضم مواطنين إماراتيين متهمة بالتجسس لحساب أبوظبي.
وقال الهنائي: "تواجدتُ اليوم (الاثنين 11 مارس 2019)، في محكمة الجنايات بمسقط، والتي نظرت في قضية أمنية تورط فيها 5 أشخاص من دولة الإمارات بينهم ضباط، بالإضافة إلى متهميَن عمانيَّين مدنيين".
وأضاف: "القضية بدأت منذ نحو 3 أشهر، بعد أن تم القبض على المتهمين والتحقيق معهم، ثم إحالتهم للادعاء العام".
ووصف الهنائي في تغريدة أخرى جلسة المحاكمة بـ"السرية"، قائلاً: "اقتصر الحضور على محامٍ وذوي المتهمين".
ويكشف إصرار أبوظبي على التجسس على جارتها حجم الأزمة التي تشوب العلاقة بينهما، ووجود عوامل عديدة تقف وراء هذه القضية.
أطماع إماراتية
عبد الناصر الحمداني، الباحث المختص بالشأن الخليجي والإيراني، قال: إن "كشف خلية التجسس الإماراتية هو رأس جبل المشاكل التي تعصف بعلاقات البلدين، فهناك عوامل وأزمات قديمة سبقت القضية".
وأضاف الحمداني في حديثه لـ"الخليج أونلاين": "في 2008 أغلقت الإمارات معبراً حدودياً حيوياً يصل بين مدينتي البريمي العُمانية والعين الإماراتية، وأدى الإغلاق إلى سخط على جانبي الحدود، ترجمته احتجاجات سلمية وتحركات لشيوخ المناطق المتضررة على الجانبين، فأُعيد فتح المعبر تحت الضغط الشعبي".
وتابع الحمداني: "عوامل شخصية تخص محمد بن زايد تقف وراء محاولته قلب الطاولة على السلطان قابوس؛ فخلال مرض الشيخ زايد ووفاته، عام 2004، اشتد التنافس بين أبناء زايد على خلافته، فألقى حينها السلطان قابوس بثقله إلى جانب خليفة، الرئيس الحالي، وساهم بفعالية في تثبيته وحسم الصراع لصالحه ضد إخوته غير الأشقاء، الذين يطلَق عليهم تسمية الفاطميون، وأكبرهم محمد بن زايد".
واستطرد بالقول: "بن زايد لم ينسَ هذا الموقف رغم علاقة الود التي كانت تجمعه بالسلطان قابوس، ففي منتصف التسعينيات، وبعد أن تمكّن من زمام الحكم، عمد إلى تسريح آلاف الأشخاص في الجيش والشرطة بسبب أصولهم العُمانية، ونُظر إلى القرار حينها على أنه استهداف للسلطنة وتخوين لأبنائها".
الحمداني يرى أن لدولة الإمارات أطماعاً في السلطنة، ولها جذور تاريخية تعود إلى فترة حكم الشيخ زايد، مؤسس الدولة، حيث أمر في السبعينيات بتشكيل خلايا في صفوف العُمانيين من قبيلة الشحوح المقيمين في المناطق المجاورة لإمارة رأس الخيمة، وكسب ولائهم واستمالة بعضهم بإغراءات كبيرة للتخلي عن الجنسية العُمانية وحمل الجنسية الإماراتية.
وأردف بالقول لـ"الخليج أونلاين": "ولعل هذا ما يفسّر التصرف الاستفزازي من قبل الإمارات حين عرضت خريطة مشوّهة، في يناير 2018، بمتحف اللوفر في أبوظبي تُظهر محافظة مسندام العُمانية ضمن حدود الإمارات، ما أثار غضب السلطنة، التي اتهمت الإمارات بسرقة تاريخ عُمان وشخصيات عُمانية تاريخية ونسبها إليها".
وبين الباحث المختص بالشأن الخليجي أن فيلماً وثائقياً إماراتياً عنوانه "زايد الأول ذاكرة ومسيرة"، بُث في مارس 2018، "لفّق وقائع تاريخية مشوهة تسببت حينها بموجة غضب في مسقط، كما أدرجت الإمارات حضارة مجان العُمانية في مناهجها الدراسية تحت اسم حضارة مجان في دولة الإمارات".
تحركات مشبوهة
وكانت وسائل إعلام عُمانية كشفت، في 2015، قيام الإمارات بعمليات شراء غير مسبوقة لأراضٍ وولاءات قبلية شمالي السلطنة على الحدود مع الإمارات، وقدمت أموالاً طائلة لشخصيات قبلية غير معروفة في ولاية مدحاء العُمانية، التي تقع بالكامل داخل الأراضي الإماراتية، ومحافظة مسندم العُمانية التي تطلّ على مضيق هرمز.
وما يعكس الأطماع الإماراتية كذلك التحركات المشبوهة التي هدفت من خلالها إلى السيطرة على محافظة المهرة، شرقي اليمن، الحدودية مع سلطنة عُمان، في مسعى لإيجاد موطئ قدم لها في منطقة محاذية لمضيق هرمز.
وفي هذا السياق كشف حساب "مجتهد الإمارات" الشهير على "تويتر"، في أكتوبر الماضي، عما وصفها بالمؤامرة ضد سلطنة عُمان يقودها ولي عهد أبوظبي، والقيادي الفلسطيني المفصول من حركة فتح، محمد دحلان؛ من خلال دعمهما لما توصف بالمعارضة العُمانية المزعومة في مسندم وظفار.
ويرى مراقبون أن محاولات بن زايد السيطرة على زمام الأمور في سلطنة عُمان تسعى لتنحية السلطان قابوس وتنصيب من يوالي أبوظبي في سياساتها، وخصوصاً حرب اليمن ومحاولة السيطرة على مدن استراتيجية فيها، إضافة للتضييق على دولة قطر وإقحام مسقط بالأزمة المفتعلة.