رائد السمهوري- الوطن السعودية-
لا تخلو عمان من الطوائف المختلفة، سنة وشيعة وإباضية، غير أنك إذ تزور السلطنة لا تفرق بين شيعي وسني وإباضي، ولا تستطيع حتى أن تدرك أن من تكلمه ينتمي إلى طائفة من تلك الطوائف
قدّر الله وقضى -ولا رادّ لما قدّره الله وقضاه- أن تكون هذه المنطقة وعاء يحوي طوائف إسلامية وغير إسلامية، فأغلبهم سنّة منهم سلفية ومنهم أشعرية، حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية، وفي منطقتنا شيعة؛ منهم إسماعيلية ومنهم إماميّة ومنهم زيديّة، وفيها إباضيّة، ناهيك عن طوائف النصارى، وناهيك عن اليهود، ولا أعني الصهاينة، بل أعني اليهود من أبناء البلاد العربية كيهود اليمن والعراق -ولليهود العرب قصة ربما يسنح الوقت لذكرها يوما-، دع عنك الدروز والصابئة وأشباههم، ودع عنك الطوائف العرقية الأخرى من الأكراد والآشوريين والأزيديين وغيرهم.
أبناء تلك الطوائف المختلفة هم أبناء أصلاء لهذه المنطقة، ووجودهم فيها يمتد لمئات السنين، ولكل طائفة من تلك الطوائف أعلامها ورؤساؤها، ولكل طائفة جذورها الممتدة في التاريخ وحوادثه.
ولئن كان أبناء تلك الطوائف عربا وغير عرب؛ إلا أنهم جميعا يشتركون في تقاليد وصفات يأخذ بها جميعهم، أرأيتك لو زرتَ إسماعيليًّا أو إماميا أو إباضيًّا في بيته، ألا يقوم بواجب الضيافة على وفق "سنوم العرب"، ويجتهد في أداء الواجب الذي عُرف به العربيّ ترحيبا وبشاشة وكرما؟
نعم، كان في التاريخ نزاعات حمقاء، لا أقول بين أهل السنة وغيرهم فقط، بل بين أهل السنة وأهل السنة كذلك، وكان السبب في هذا غالبا بعض الفقهاء والمشايخ الذين طمس التعصب على قلوبهم وأعينهم فما فتئوا يحرضون أتباعهم، ويشعلون نار الفتنة بين العوامّ، يقتل بعضهم بعضا، ويسفك بعضهم دم بعض، ويهتك بعضهم عرض بعض.
لكن النزاع الطائفي في التاريخ الإسلامي الطويل لم يبلغ أن يكون بهذه الدموية وهذا التفنّن البشع في القتل الذي نشهده كل يوم في هذا الزمن الكريه، إذ لم يكن نداء المحرضين ليتجاوز حدودهم وأتباعهم الأدنيين، أما اليوم فالتحريض -ويا خفيّ الألطاف نجّنا مما نخاف- عابر للقارات. إن كان وجود الطوائف في هذه المنطقة أمرا مقدورا وقضاء حتما -والحمد لله على كل حال-؛ فهل التعصّب والطائفية كذلك لا مفرّ منهما ولا علاج لهما ولا حلّ لعُقدهما؟!
أيمكن أن تكون في منطقتنا طوائف بلا طائفية؟ ومذاهب بلا مذهبية؟ فأن تكون ابنا لطائفة لا يقتضي بالضرورة أن تكون طائفيا، وأن تكون متبعا مذهبا لا يعني حتما أن تكون مذهبيا، وما الطائفية والمذهبية؟ إنهما فكرتان قائمتان على التعصب، قائمتان على النظر إلى كل البشر على أساس المذهب، وخير ما يمكن أن نعرّف به التعصب ما روي أن رجلا سأل عليّ بن الحسين -رضي الله عنهما- عن العصبية فأجاب: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرارَ قومِه خيرًا من خيارِ قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكنْ من العصبية أن يعين قومه على الظلم".
هذا لعمرُ الحق مقياس دقيق، ومعيار سليم، فسل -بالله عليك- متعصبا ينتمي إلى الطائفة الفلانية، أو متعصبا ينتسب إلى الطائفة العلانية، سله عن أحد المشهورين بحسن الأخلاق وطيب الشمائل ولين العريكة من مخالفيه، أتراه أفضل عندك من فلان بن فلان المنتسب إلى طائفتك المشهور بسوء الخلق والجلافة يا شيخنا؟ وانتظر الإجابة، لترى أن هذا المتعصب يفضّل أشرار أبناء طائفته على خيار أبناء الطائفة المخالفة.
لن نخادع أنفسنا فندّعي أن الأمور بخير، ولن نكابر عقولنا فنزعم أنْ ليس التعصب فينا ظاهرا، ولن نغطي أعيننا عن هذا الواقع الآسن المخيف الذي يروّع الآمنين في بيوتهم ومساجدهم، ويهدد الأوطان في تماسكها ووحدتها.
ورغم طغيان القتَام في هذه الأيام السود التي نعيشها في هذه الأحيان؛ إلا أن هناك حجة وبرهانا على أنه من الممكن أن يعيش أبناء الطوائف في أوطانهم إخوة متحابين، على سرر متقابلين، طوائف بلا طائفية، ومذاهب بلا مذهبية. ذلكم هو النموذج العُماني، فلا تخلو السلطنة العمانية من الطوائف المختلفة، سنة وشيعة وإباضية، غير أنك إذ تزور السلطنة لا تفرّق بين شيعي وسني وإباضي، ولا تستطيع حتى أن تدرك أن من تكلمه ينتمي إلى طائفة من تلك الطوائف. مساجد السلطنة مشتركة، يأتمّ فيها الشيعي والإباضي بالسني، ويأتم السني والإباضي بالشيعي، ويأتم السني والشيعي بالإباضي.
ومناهجهم الدينيّة في المدارس تكتفي بما يتفق عليه المسلمون جميعا مما وقع فيها الإجماع، دون الدخول في تفصيلات الاعتقادات التي يقرؤها المتخصصون من طلبة العلم. أو يشرحها المشايخ خارج حدود المدارس النظامية.
وفي السلطنة العمانية يمنع أن تسأل الرجل عن مذهبه، إذ ذكر المذاهب والطوائف، وسؤال الرجل عن مذهبه مخالف للقانون. لذا اختصرت عُمان طريقا طويلا وعرا حين جرّمت الطائفية والمذهبية، وكان قرارا سياسيا صارما شديد الوثاقة، مفعّل التطبيق، مغنيًا عن ألف كتاب، وألفي مقالة في التحذير من التعصب.
إن السلطنة العُمانية تجربة ناجحة وناجعة، أثبت فيها الإخوة في عمان حكومة وشعبا قدرة نراها رأي العين على العيش المشترك، وعلى التسالم والتصافي والتحابّ والتوادّ؛ حتى سارت بذكر ذلك الركبان.
أفتعجز دول المنطقة أن تحذوَ حذو عُمان؟