عمان اليوم-
أكد سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة أن العدل في الإسلام هو مبدأ عام وواجب إنساني لجميع الناس بمختلف دياناتهم وأجناسهم وأعراقهم.
وأوضح سماحة الشيخ المفتي أن النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة، حذرت تحذيرا شديدا من التأثر بعواطف القربى أو أي عاطفة كانت، كل ذلك حتى تعطى الحقوق لأصحابها ،« فالقريب والبعيد والبغيض والحبيب في ميزان العدل سواء».
وبيّن سماحة الشيخ المفتي أن «العدل في الإسلام» لم يكن نظريات تُذكَر ، وإنما كان العدل « منهجا ربانيا أخذ به المسلمون وكان ذلك واضحا في تعاملاتهم. جاء ذلك في محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في جامعة السلطان قابوس.
وقال سماحته : « إنّ من مزايا الإسلام الواضحة أنه أعطى كل ذي حق حقه، وقد فرَض على الإنسان – باعتباره خليفة في الأرض وسيّدا في هذا الكون – حقوقا يؤديها الفرد إلى مجتمعه وإلى أمّته وإلى جنسه عموما ويؤديها – أيضا – المجتمع والأمّة إلى الفرد، وجعل هذه الحقوق متفاوتة بتفاوت العلاقات التي تُسبِّبها، وبعض هذه الحقوق حقوق عامة وبعضها حقوق خاصة، وعلى المسلم أن يؤدي كل ذلك بخضوع وخشوع لله – تبارك وتعالى – الذي فرض هذه الحقوق، فإنّ هذه الحقوق ليست وليدة نظام بشري وإنما هي من أمر الله – سبحانه وتعالى – الذي لا مُعقِّب لحكمه.
وأضاف : إن هذه الحقوق حقوق متفاوتة، فقد تكون الحقوق الواجبة على الإنسان المسلم مشروعة لجميع المسلمين، وقد تكون مشروعة – أيضا – لجميع أفراد الجنس البشري، بل من الحقوق ما هو مفروض حتى للحيوان الأعجم وللكائنات الأخرى التي خلقها الله سبحانه وتعالى، والإسلام يفرض أداءها على العباد، فإنّ الله – سبحانه وتعالى – فرَض الرحمة والإحسان على عباده في كل تعاملهم مع بني جنسهم أو غير بني جنسهم، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنّ الله فرض الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليُحِدَّ أحدكم شفرته وليُرِح ذبيحته ).
وأوضح سماحته أنّ الإسلام فرض حق الإحسان لكل ما هو حيّ .. حتى الحيوان الأعجم يُفرَض له هذا الحق، فقد كتب الله – سبحانه وتعالى – الإحسان في كل ما يصدر عن الإنسان. وحقّ الإحسان عام مشترك، يجب أن يؤديه الإنسان إلى بني جنسه وإلى غير بني جنسه، وهذا الحق لا ينحصر في تعامل الناس به – بحسب نظام الإسلام – فيما إذا كان بينهم تواد وتراحم، بل هذا الحق يُعامَل به حتى العدو في أحرج المواقف وأدقها، ومن ذلك النهي الشديد عن التمثيل بالقتلى، فإنّ النبي- صلى الله عليه وسلم – كان إذا جهّز سَريّة ينهاها عن أشياء ومن بينها التمثيل، كما جاء ذلك في حديث صفوان بن عسّال وفي حديث ابن عباس وفي حديث أنس رضي الله – تعالى – عنهم، إذ النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول للجند عندما يهيئهم للقتال: ( سيروا باسم الله وعلى بركة الله، قاتلوا الذين كفروا ولا تمثِّلوا ولا تغدِروا ولا تغُلّوا ) إلى غير ذلك مما كان يوصيهم به صلى الله عليه وسلم، فمن بين هذه الوصايا عدم التمثيل، وهو مبدأ إنساني فرضه الله – سبحانه وتعالى – على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم – ليدل ذلك على أنّ الإسلام دين الرحمة وعلى أنّ المسلم تفيض مشاعره بالرحمة والإحسان تجاه الآخرين ولو في هذه المواقف التي يجب على المسلم ألاّ تأخذه فيها لومة لائم، وكذلك الغدر، فنجد أنّ الحديث ينهى عن الغدر، فالمسلم غير غدّار ولو في مثل هذه المواقف الحرجة يتعامل مع الناس بالصدق ولا يتعامل معهم بالغدر.
العدل مبدأ إنساني
وبين سماحة الشيخ المفتي أن من الحقوق المشتركة الواجبة على المسلم للجميع هو العدل، ذلك : «أنّ العدل حق واجب على كل مسلم لأيّ واحد من الناس سواء للقريب أم للبعيد .. للداني أم للقاصي .. للعدو أم لولي .. كل من هؤلاء تجب لهم العدالة».
وأوضح سماحته أن العدالة حق عام لجميع الناس، فقال: «عندما أمر الله – سبحانه وتعالى – بالحكم بالعدل لم يقل سبحانه وتعالى: « وإذا حكمتم بينكم أن تحكموا بالعدل .. أي بين المسلمين أنفسهم « بل قال عز وجل: « وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .»، وكلمة ( النَّاسِ) كلمة عامة يدخل فيها المسلم والكافر والبر والفاجر والصديق والعدو والقاصي والداني، فليست ولاية الولي مسبِّبة لأن يعطى أكثر من حقه المفروض له، ولا عداوة العدو تجتاح حقه الذي فرضه الله – سبحانه وتعالى – له، فكل أحد من الناس يُعطى حقه من غير التفات إلى قرابة أو بُعد، سواء كانت هذه القرابة قرابة نَسبية أو سببية، لأنّ العدل مبدأ عام إسلامي إنساني يجب للكل من غير التفات إلى معتقد هذا الذي يُعدَل بينه وبين غيره أو إلى جنسه أو إلى لونه أو إلى نسبه أو إلى أيّ شيء من ذلك، فالعدالة حق فرضه الله – سبحانه وتعالى – على عباده للجميع، وبما أنّ المسلمين هم الذين يُمثِّلون أمر الله وَجّه الله – سبحانه وتعالى – إليهم هذا الخطاب.
وأوضح سماحته أن الله سبحانه وتعالى حذّر عباده من أن يتأثروا بعواطف القربى أو أن يتأثروا بأيّ شيء مما يَجعل صدورهم تَغْل ضدّ أحد :« ففي حالة الحكم يجب على الإنسان أن يَحكم بالعدل بين القريب والبعيد وبين الولي والعدو، فالله – تعالى – يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا » هكذا يأمر الله – سبحانه وتعالى – بالقسط .. يأمر المؤمنين بأن يكونوا قوامين بالقسط، وألاّ يتأثروا بشيء من العواطف ليُعطوا غير ذي حق أكثر من حقه أو ليَحرموا ذا الحق من حقه، فلو كان أحدُ الناس أحدَ الوالدين أو كان قريبا بأيّة قرابة تشد إليه الحاكم فليس للحاكم أن يراعي هذه القرابة في الحكم. كذلك يحذِّر الله – سبحانه وتعالى – عباده من أن يسبِّب الشنآن الذي بينهم وبين أحد من الناس في غمط شيء من حقه، فالله – تبارك وتعالى – يقول: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى » فالقريب والبعيد والبغيض والحبيب في ميزان العدل سواء ..
العدل منهج رباني .. وواقع إسلامي
وأكد سماحة الشيخ الخليلي أن «العدل في الإسلام» لم يكن نظريات تُذكَر ولا يُبصَر أثرها وإنما كان « منهجا ربانيا أخذ به المسلمون، بل كان ذلك واضحا في تعامل الأمّة حتى مع ألدِّ أعدائها، فإنّ العدل يفرضه الله – تبارك وتعالى – على عباده للكل، وناهيكم بما جاء في كتاب الله -سبحانه وتعالى – من آيات تتلى في الصلوات وفي غيرها من أجل تبرئة ساحة يهودي، هذا اليهودي ألصقت به تهمة وهو بريء، كما جاء ذلك فيما رواه الإمام ابن جرير الطبري وغيره من أئمة التفسير في تفسير هذه الآيات التي نزلت في هذه القصة .. هذا اليهودي ألصقت به تهمة كان بريئا منها، وذلك أنّ أحد الناس المحسوبين على الإسلام ويُدعى طُعمَة بن أُبَيرِق سرق درعا لأحد من الناس فلما خشي أن ينكشف أمره ألقاها في بيت يهودي وألصق هذه التهمة، هو ومن معه بذلك اليهودي وأرادوا أن يُوغِروا قلب النبي – صلى الله عليه وسلم – على اليهودي فما كان إلا أن نزل في ذلك قرآن يَفضح مؤامرة المتآمرين ويبرئ البريء ولو كان من ألد أعداء الإسلام، فاليهود – كما نطق القرآن الكريم – هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، إلا أنه نزل في ذلك قرآن يُتلى:« إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا » إلى أن قال الله سبحانه وتعالى : « وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا » هذه آيات نزلت من أجل تبرئة ساحة هذا اليهودي مما ألصق به من تهمة كان منها بريئا.
مسؤولية إقامة العدل كبيرة وجسيمة
وقال سماحة الشيخ : نجد في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – ما يدل على أنّ مسؤولية العدل مسؤولية كبيرة، وأنّ من تحمل هذه المسؤولية بأمانة وجدارة كان حريا بأن يُبوِّئه الله – سبحانه وتعالى – المراتب العليا في الدار الآخرة وأن يرفع قدره ويعلي شأنه، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ( سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ) وعندما ذكر هؤلاء السبعة ذكر في من ذكر الإمام العادل، فالإمام العادل هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ويعطي كل ذي حق حقه ولا يُؤْثِر قريبا على بعيد ولا وليا على عدو بسبب ما بينه وبينه من قرابة أو وَلاية وإنما يُنزِل الناس منازلهم بحسب ما أمر الله – تعالى – به.
وفي المقابل نجد في الحديث الشريف – أيضا – ما يدل على أنّ من لم يعمل بذلك كان بعيدا كل البعد عن رحمة الله تعالى، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ( ما من والٍ يلي رعيّة من المسلمين فيموت وهو لها غاشّ إلا حرّم الله عليه الجنة ) فمن ولي رعيّة – أي طائفة يرعاها من المسلمين – ثم بعد ذلك يموت وهو لها غاشّ بحيث لا يؤدي لها النصح ولا يقوم لها بالواجب لا يكون له جزاء عند الله إلا أن يحرمه الله – سبحانه وتعالى – من جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
كذلك نجد هناك حديثا آخر جاء غير مقيَّد بكون الرعية من المسلمين، فقد جاء في هذا الحديث: ( ما من عبد يسترعيه الله رعيّة ثم لا يَحوطها بنصحه إلا لم يرح رائحة الجنة)، فمن ولي رعيّة أيّ رعية كانت ولم يَحطها بالنصح الذي فرضه الله – تبارك وتعالى – عليه فإنّ جزاءه ألاّ يروح رائحة الجنة، ولا يقال انّ هذا الإطلاق هنا مقيَّد بذلك القيد الذي جاء في الحديث الآخر – بناء على القاعدة المشهورة عند الأصوليين من أنّ المطلَق يُحمل على المقيَّد – وأنّ غيرَ المسلمين لا يكون لهم حق النصح كما هو مفروض للمسلمين لأنّ هذا التقييد إنما هو – كما تعلمون – من باب الأخذ بالمفهوم والمفهوم يُصار إلى الأخذ به عندما يكون المنطوق غير وارد مورد الأغلب المعتاد، ومن المعلوم أنّ الناس في ذلك الوقت الذي كانت الجزيرة العربية فيه واقعة تحت حكم الإسلام بحيث كانت راية الدولة الإسلامية ترفرف على أجزاء الجزيرة العربية وكان كل وال يبعثه النبي – صلى الله عليه وسلم – يبعثه إلى المسلمين اللهم إلا أن تكون هنالك طائفة قليلة من أهل الذِّمَّة فلذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم – هذا، ومما يدل على أنّ هذا الحكم على إطلاقه ما جاء من آيات الكتاب العزيز دالا على أنّ العدل مبدأ عام لا فرق فيه بين مسلم وغيره فعلى المسلم أن يعدل بين المسلم وغير المسلم، كما هو في قول الله تعالى: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» فإذن الحكم بين جميع الناس إنما يجب أن يكون بالعدل، فالظلم يُرفع عن المسلم وغير المسلم بحسب شريعة الله تبارك وتعالى، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: (كلكم راع وكل مسؤول عن رعيّته ) فكل راع هو مسؤول عن رعيّته سواء كانت هذه الرعيّة على حق أو كانت على باطل.
شريعة الله .. وشورى الجماعة
وأضاف سماحة الشيخ أنه للقيام بمهمة العدل والاضطلاع بأمانة الإنصاف بين الناس جميعا كان الحكم في الإسلام مبنيا على قاعدتين أساسيتين لا يستقيم الحكم في الإسلام دونهما: شريعة الله – تعالى – العادلة، وشورى الجماعة المسلمة، فشريعة الله العادلة هي التي يُحتكم إليها في كل جزئية من جزئيات أمور الناس .. فيما دقّ أو جلّ .. فيما عظُم أو حقُر، فليس للإنسان أن يَحتكم إلى غير شريعة الله، لأنّ الله – سبحانه وتعالى – نَسب كل حكم يُخالِف حكمه – عز وجل – إلى الجاهلية عندما قال: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون» وقال عز وجل: « وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ » وقال: « وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» وحذّر الله – سبحانه وتعالى – نبيّه – عليه أفضل الصلاة والسلام – عن أن يُميله الناس عن هذا الحكم .. الحكم الذي أنزله الله – تعالى – وهو شريعة الله العادلة، فالحكم – إذن – لا يكون إلا بهذه الشريعة في الإسلام.