علي عقلة عرسان- الوطن العمانية-
أربع سنوات من التقتيل والتدمير والتشريد، أدمت الشعب السوري ودمّرت سوريا الدولة، والوطن، والحضارة.. وأكثر من مئتين وخمسين ألف قتيل، ومئات آلاف الجرحى والمعوقين والمصابين بأنفسهم وبذويهم، وملايين الأطفال بلا مدارس، ولا عناية صحية، ولا غذاء مناسب لنموهم.. وملايين من الشباب، وأكثر منهم من النساء، بلا مستقبل، وبلا أمل في أمن أو مستقبل!!.. وكل ذلك: العذاب والتعذيب، الفقر والقهر، الطغيان وإدمان الطغيان، الفساد والإفساد، الفوضى وغلالها المر، وممارسة الإرهاب والرد عليه بأساليبه.. وملايين النازحين واللاجئين، في الداخل السوري وفي دول الجوار السوري على الخصوص، وهم المسجلون، حسب إحصاء مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة:
-7.6 مليون نازح داخل سوريا -249.463لاجئ في العراق -
629.245 لاجئ في الأردن -132.375 لاجئ في مصر -1.113 مليون في لبنان – أكثر من مليوني لاجئ في تركيا إضافة إلى عدد آخر، قد يتجاوز المليون لاجئ، في هذه البلدان لم يدخل التعداد الرسمي للاجئين المسجلين في دول الجوار.. هذا عدا عمن يتوزعون منهم في دول أخرى، عربية وأجنبية؟!.. كل تلك الكوارث الظاهرة، والأخرى غير الظاهرة للعيان الآن، لكنها مما يُقرأ ويُستنتج، ويتم الحديث عنه.. لم تحرك الدول المعنية وغير المعنية، بما سمي “الأزمة السورية”، ولم تحرك الضمائر، والقوى الدولية الكبرى، بما يكفي، لكي يضع العالم حدًّا لمأساة شعب ودمار بلد؟! ووحدهما عمليتا:
- وصول ما يقرب من 348.540 شخصًا سوريًّا يسعون للحصول على لجوء سياسي في أوروبا، بحسب آخر الأرقام الصادرة عن مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
- والعملية الإرهابية في باريس، التي أوقعت ١٢٩ قتيلًا و٣٥٠ جريحًا
- وحدهما جعلتا أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وروسيا الاتحادية، ودولًا أخرى، وهيئات سياسية دولية، تلتفت بقوة وسرعة إلى الكارثة الموصوفة، ومخاطرها.. وذلك خلال مدة زمنية قصيرة؟! وجعلها تسرع إلى اتفاق ذي شقين: عسكري ـ تدميري، وسياسي يفضي إلى حلول للأزمة، استنادًا إلى جنيف ١ عام ٢٠١٢، بنكهة فيينا ١و٢ عام ٢٠١٥؟!
ذاك أمر عجيب، لكنه ليس الغرابة، ولا مما هو غريب في بابه!! فهذا هو شأن الأقوياء، والأغنياء، والمتحكمين بالعالم، لا سيما بالسلاح، والطاقة، والمال، والإعلام.. وبشؤون “الصغار، والضعفاء، والأغبياء و.. و.. إلخ”، من جهة، وشأن الذين يحترمون مواطنيهم، وحقوقهم، وبلدانهم، وينظرون نظرة بعيدة إلى ما يجميهم وينمي مصالحهم. إنهم لا يبنون تحركهم الاستراتيجي على المبادئ، ويضعونها جانبًا عندما يتعلق الأمر بالمصالح والمخاطر وبالصراعات على الوجود والنفوذ في العالم؟!
عندما يتضرر ذوو الشأن والقوة، أو يتألمون.. تسير الرياح وفق ما يشتهون، أو يسيّرونها في الاتجاه الذي يريدون. أما عندما يستثمرون في آلام الآخرين وفي مصائرهم، وعندما يجنون المكاسب المادية والمعنوية منهم من دون شوائب، وحتى عندما يخططون لما يجعلهم يتخبطون ويتبددون، ويشاؤون لهم ما يشاؤون، فإنهم يعطلون الريح التي تدفع مراكبهم، ويحاصرونهم بالإحباط والتثبيط والفوضى، ويذبحونهم عند اللزوم.. من دون أن يشعروا مطلقًا بأن أولئك يملكون ما يملكه البشر أمثالهم، مشاعر وأرواح، ولهم حياة، وما للإنسان من حقوق. إنهم لا يشعرون بآلام الآخرين، بل ولا يترددون في الاستثمار بدمائهم وأرواحهم ومآسيهم.. وقد يتساءلون في قمة النشوة: “هل أولئك أصلًا، بشر مثلنا؟!
عالم لا يمكن أن تصنفه وفق مبدأ، أو معيار، أو حكم دين، وقيم خُلُق وحضارة إنسانية، تتجسد سلوكًا، وتحكم السلوك البشري.. ذاك لأنه محكوم بالقوة والمصلحة، ويحتكم إلى غير المبادئ، والمعايير: “الإنسانية، المنطقية، الأخلاقية”، ولا إلى العقلانية المعروفة.. فتلك يرددها، الأقوياء، ويرونها لهم وليست لسواهم، وأنها تراعى فيما بينهم وفق منطق القوة التي تسندها.. وفي أوقات وظروف، يتصرفون على النقيض منها، ومن منظور خاص جدًّا، ومنطق متعالٍ وحادٍّ جدًّا.. لا سيما عندما يتعلق الأمر بالآخرين؟! ولا يحول شيء دون أن يلتمسوا شماعات يعلقون عليها أسبابهم التي تدعوهم للتصرف، على هذا النحو أو ذاك، عندما يقررون التحرك؟!
في المأساة السورية، وفي الحوادث الإرهابية المؤسفة، والمدانة، التي تمت بسببها، أو في إطارها، أو نُميت إليها.. ومنها ما جرى في باريس في الـ١٣ من تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠١٥، وما جرى للطائرة الروسية فوق سيناء.. وغير ذلك. ذهب معظم الأوروبيين والأميركيين، وذهبت سياسات دولية وإقليمية، إلى أبعد من الرد بالقوة على العمل الإرهابي المدان، حيث قيل: “إن اللاجئين السوريين هم الذين يحملون الإرهاب، وعليه يجب التوقف عن استقبالهم”؟! فوقعت المآسي وأثمانها، وفظاعة رعبها.. وقعت على رؤوسهم مرتين، عدا عن الشقاء والرعب، وخطر الإرهاب، وأنواع العذاب.. التي دعتهم إلى ركوب المخاطر في رحلة الموت؟!
وفي التماس الغربيين لحلول سياسية للأزمة/الكارثة في سوريا، ومن ذلك استخدام القوة لإفساح طرق أمام تلك الحلول.. دفع السوريون الثمن الفادح أكثر من مضاعف، وفي كل يوم. وهم يدفعونه من دمائهم، وأرواحهم، ومعاناتهم، ومما تبقى من وطنهم، ذاك الواقع مثلهم، بين نيران عدة، منها نيران الأعداء والأصدقاء، ونيران القوى الدولية الكبرى المتصارعة أو المتنازعة على المصالح والنفوذ، ومنها أيضًا، بل وفي المقدمة مما يزيد من بؤسها وقسوتها وشراستها: “نيران الذات التي تستهدف الوطن والذات”!؟ بذرائع عدة، وتحت شعارات تمتد من تورم الذات إلى تهافت الصفات.
لا نريد لهذه المآسي أن تستمر، ولا أن تتجدد على نحو ما، في بلدنا أو في بلدما، لأي سبب، وفي أي وقت.. لا نريد لوطننا سوريا، أن يصبح بؤرة للرهاب ، ولا ساحة لموجهات القوة تحت مسمى “محاربة الإهاب”.. فلينتهِ الاستثمار في هذا المجال، مجال الإرهاب، في بلدنا وفي كل بلدان العالم، ولتنتهِ التجارة البشعة الفظيعة في هذا النوع من الإجرام وسواه من صور الإجرام.. فتلك استثمارات الخسة، والدناءة والإجرام، والتوحش الذي يتبنى التوحش، ويدفعه، ويطلقه، ويحاول أن يوظفه خدمة لاستراتيجياته ومصالحه؟! ولينتهِ الاستثمار السياسي والاقتصادي بدم شعب وحياته، وفي وطننا سوريا، وفي أي وطن. نريد وطننا لنا، ونريده نظيفًا، ومعافى، وخاليًا ممن يستثمرون في الإرهاب، والعنف، والتطرف، والاستبداد، والقصور العقلي، والخيانة، والفتن بأشكالها.. نريد أن نعيش في أرضنا بأمن وكرامة، لا أن نعيش في “جنان” الآخرين منقوصي الأمن والكرامة. ومثل هذا الذي نريده لنا نريده للآخر، تمامًا كما نريده لأنفسنا. ونتمنى على الآخر، أن يحترم حقنا في الحياة، وألا يستثمر في دمنا، وألا يتسبب في شقائنا، وألا يساهم في تشريدنا، ثم يحملنا مسؤولية التشرد وما يسببه لنا ولغيرنا من صعوبات ومشكلات وشرور، وما قد يشوب ذلك من “إرهاب”، بذرائع الرد على الإرهاب. نريد من الآخر أن يرانا كما نحن، لا أن يشوهنا كما يريد، ليسوِّغ قتلنا، وعداءه لنا، أو ليستهدفنا وجودًا وقيمًا وثقافة وحضارة. وإن له علينا مثل ذلك، وربما أكثر.. حيث كل إنسان يرى، ويحمل، ويتحمل، وفق ما يرى أنه من مقومات عقيدته، وإنسانيته، ومِن حقوق الآخر الإنسان عليه. لا نريد أن نفرض على أحدٍ ما نريد، ولا أن يفرض علينا أحدٌ ما يريد.. فذاك ليس من حقه ولا من حقنا، فضلًا عن أن نتائجه وخيمة. نريد الأمن والسلم والاستقرار، باعتماد متبادَل بين الدول والشعوب، واحترام متبادَل أيضًا، فكلٌّ قد يحتاج إلى الكل في العالم “القرية”.. ولا شك في أن الداخل في هذه المعادلة يُغنى الآخرين ويغتني بهم. نريد أن نعيش بقيم نشارك فيها الناس، ويشاركنا فيها الناس.. قيم خيّرة، لا عدوان فيها، ولا احتقار، ولا رسيس عنصرية وجهل، ولا شبهة مقت، ولا مظاهر نقص وقصور مرَضي من أي نوع. لا نريد للأبرياء أن يُقتلوا، ولا للظلم أن يستمر، ولا للاستبداد أن يُحمى ويتجذر، ولا للإرهاب أن يُشهر سيفًا ويُشيع في الأرض رعبًا، ولا أن يُشهَر علينا السيف، فنُقتَل باسم الإرهاب وباسم محاربة الإرهاب، وندفع الثمن الفادح في كل مكان، وفي كل وقت، أضعافًا مضاعفة.
إن من المسؤولية الخُلقية، والإنسانية، والقانونية.. أن نساهم جميعًا في التصدي للعنف، والتطرف، والإرهاب.. ولكن، وبالدرجة ذاتها، علينا أن نتصدى لكل ما يسبب العنف، والتطرف، والإرهاب. وأساس ذلك محاربة الفقر، والجهل، والتمييز، والطغيان بأشكاله، ودعم الطغيان بأشكاله. وأساسه ثقافة، وتربية، وسياسة، وسلوك، وممارسة لا تتناقض مع السليم القويم من السلوك.. وأساسه العميق إيمان يحمل الروح الصحيح للأديان، بما فيها من تسامح، ومحبة، وتعاون على البِر والإحسان.. وأساسه وعي معرفي عميق ومتجذر بحقائق: “المساواة بين الناس في كل ما يتعلق بالحياة والحقوق والفرص.. والعدالة التي لا تقوم لحكم قائمة من دونها.. والحرية التي هي جوهر الحياة وما يميز الإنسان من حيث الوعي بها، والحرص على أن تكون للآخر أيضًا، بمسؤولية متبادلة”.. وأن نعمل على أن يتحول ذلك المعطى النبيل كله، مع الزمن والجهد والفهم، إلى طبيعة، إلى فطرة، إلى معيار للإنساني والثقافي والحضاري.. وليس إلى تطبُّع أو قناع “حضاري” يضعه وحش على وجهه بينما يبطش قلبه وعقله وذراعه بالأخرى. جراء امتلاكه لقوة لا يحكمها عقل ولا ضمير. وذاك كله، يعني فيما يعنيه، محاربة الظلم، ومواجهة الاستبداد، ووضع حد لمنطق القوة وتجلياته وممارساته، وإنهاء الاستثمار الخبيث في الإرهاب والفوضى “التي سمتها كونداليزا رايس خلاقة، فدمرت الخُلُق والخَلْق”.
ليس صحيحًا أن العمل الإرهابي “البشع، والمدان، والمرفوض و.. و.. إلخ”، الذي تم في باريس مؤخرًا، أو ذاك الذي تم أو يمكن أن يتم في غيرها من مدن العالم، هو ضد: “نمط عيش، أو نمط حضاري، أو لتدمير ثقافة، أو بنية ما..”، لأن كل حدث من تلك الأهداف يتم في ظرف، ولسبب محددين.. ولا يستهدف نمط العيش، ولا القيم، ولا.. ولا.. من ذلك الذي يقول به كثيرون، من السياسيين وغيرهم.. ومن يقوم بذلك يعرف جيدًا أنه لن يغير نمط سلوك، وطراز عيش، وقيمة ما.. لأن لا يستهدف ذلك.. بل يهدف إلى الأذى أو الابتزاز، أو الرد على الأذى والاستفزاز، أو يريد أن يبتز. ومن يصر على ألا يرى إلى ذلك من هذا الجانب إنما يريد أن ينصرف، ويصرف غيره عن الأسباب والأهداف الرئيسة للعمل الإرهابي المحدد الذي يتناوله بالتعليق أو التحليل أو التفسير. قد يرى من يرى ذلك الرأي، بعض ما يحب أن يرى، وقد تنم رؤيته عن عداء خفي من ذلك النوع ذاته، تجاه الآخر، مارسه بتقية أو يتمنى لو يمارسه. ذلك أن الإرهاب، والعمل الإرهابي، والعقل الإرهابي.. غالبًا ما يتصرف بردود أفعال على أفعال وسياسات وممارسات.. أو أنه يقوم بذلك ليبتز في مجالات سياسية أو مالية، أو أنه يُستفَز بصورة ما، فيغضب، ويتطرف، ويتعصب، ويتصرف.. فلا يعود يرى إلا من زاوية مرضه النفسي الفردي، أو الجماعي.. أو من خلال ما لحقه من أذى مادي أو معنوي، يرد عليه مسوغًا إياه بالدفاع عن الذات، والهوية، والانتماء، والمشروع.. إلخ، ضد من يستهدفهم بإرهابه. وهناك أسباب وأسباب تُبنى على حقيقة أن الإرهاب لا دين له، ولا قومية، ولا وطن، ولا هوية، ولا انتماء له.. إلخ. إنه مما يجب أن يُعالج بوصفه حالات مرَضية، أو إجرامية، أو وحشية، أو ظاهرة في مجالات ضيقة، وخروجًا على وحشية ما بطريقة دموية. وفي هذا كله يجب أن ننظر إلى أنفسنا وإلى الآخر، بموضوعية، ونقوم بكل ما من شأنه أن يحسن التشخيص والتحليل والتفسير، ومن ثم القيام بفعل مناسب يقضي على الإرهاب وبؤره وأسبابه، ويجفف منابعه، ويضع حدًّا نهائيًّا للاستثمار فيه، ولمن يستثمرون في هذا النوع من الاستثمارات السياسية القذرة.
إن مراجعات منهجية، علمية.. على أسس موضوعية، لعدد من الأعمال الإرهابية التي تمت عبر عقود من الزمن، وفي أماكن عدة، والوقوف على أسبابها، وخلفياتها، وأهدافها، ومن قام بها، ولماذا، وكيف.. إلخ.. كفيلة بأن تبين لنا حقائق لم نقف عليها من قبل، وتفتح أمامنا آفاقًا للمعالجة لم نقاربها من قبل.
إن الكثير من الأعمال الإرهابية التي يمارسها من يسمون “المستوطنين” ضد الشعب الفلسطيني، في فلسطين المحتلة، وكذلك إرهاب الدولة الصهيونية العنصرية.. لا يسمى إرهابًا، بينما يسمى دفاع الفلسطيني عن نفسه وعن وطنه المحتل إرهابًا؟؟ وإن الكثير من الحوادث التي تتم في مدارس أو مواقع أميركية، ويقوم بها أميركيون.. بعضهم شباب.. هي أعمال إرهابية في نهاية المطاف، من حيث الأساليب والنتائج، وقد لا تُسمى كذلك… لكن ما هي دوافعها وأسبابها العميق؟ ومن هم الذين ارتكبوها، وكيف تم ذلك، ولماذا؟ وما هو الهداف النهائي لهم؟! ذلك موضوع بحث مفيد.. وذلك الإرهاب “الصغير” ليس طيبًا بكل تأكيد، فلا يوجد إرهاب طيب أصلًا إلا في عقول وقلوب ذوي المعايير المزدوجة. هناك إرهاب صغير، ولكنه ليس بحجم، ولا بحكم الإرهاب المنظم ذي الأهداف والوسائل والأساليب الأخرى.. وبالتأكيد لا يقارب، بأية صورة من الصور، إرهاب الدولة، أو الإرهاب الذي ترعاه وتستثمر فيه دول، لغايات وأهداف أكبر بكثير من الابتزاز والانتقام و.. إلخ، مما يُسمى “إرهاب اللصوص”.. إن كل صور الإرهاب وأنواعه وأماكنه يمكن أن يقاربها بحث منهجي ليكشف أسبابها وخفاياها، ويتبين طرق معالجتها والقضاء عليها، من إرهاب اللصوص حتى إرهاب الأباطرة. وفي ذلك مخارج، وسبل نجاة، ومعالجات لا بد منها جميعًا لنتخلص من هذه الآفة، ونقضي عليها، بالقضاء على أسبابها أولًا.