السلطة » خلافات سياسية

مصر.. اللعب مع الكبار

في 2016/10/18

المتتبع للسياسة الخارجية المصرية يرى ما يشبه التناقض بين المزاج الداخلي العام، وحركة السياسة الخارجية المصرية إقليميا ودولياً. فالسياسة الخارجية المصرية، كثيراً ما تعكس توجه النخبة السياسية الحاكمة، بعيداً عن التوجه العام الداخلي.
هذه الظاهرة الملفتة في حركة السياسة الخارجية، يمكن متابعتها بصورة نمطية، منذ اندلاع الحرب الكونية الثانية، وحتى الآن، مروراً بفترة الحرب الباردة.
أثناء الحرب الكونية الثانية كان هناك انقسام حاد داخل النظام السياسي المصري، بجناحيه الرسمي والمدني، حول موقف مصر من أطراف الحرب وتطوراتها. حزب الوفد الذي كان يشكل القوة الانتخابية الضاربة، على الساحة السياسية في ذلك الوقت، كان يرى الوقوف مع الحلفاء ضد ألمانيا ودول المحور، بينما كانت بعض أحزاب الأقلية الأخرى التي كانت تحكم، بإرادة ملكية، كانت ترى غير ذلك... وكان الملك فاروق شخصياً يدعم التوجه لدعم دول المحور، وأقام اتصالات سرية عديدة مع برلين. حتى جاءت أزمة ٤ فبراير ١٩٤٢، عندما أُجبر على تكليف النحاس باشا بتشكيل حكومة وفدية، لتفادي إجباره التنازل عن العرش.

من الناحية الديموقراطية البحتة، كان الوفد في ذلك الوقت يتمتع بأغلبية كاسحة عند الشعب المصري، لكن في ما يخص السياسة الخارجية لحكومة الوفد كانت تتعاطف مع موقف الحلفاء، وترى أن بقاء مصر خارج الدول المحاربة إنما هو في صالح الحلفاء، ومصر معاً، حتى اضطرت القاهرة لإعلان الحرب على ألمانيا ودول المحور فبراير ١٩٤٥، استكمالاً لشكليات الانضمام للأمم المتحدة. الملفت هنا أنه بالرغم من شعبية الوفد الكاسحة، إلا أن السياسة الخارجية للوفد التي استمرت حتى بعد خروجه من السلطة ( ٨ أكتوبر ١٩٤٤)، كانت تتناقض مع مشاعر الشعب المصري المعادية للإنجليز، بوصف بريطانيا العظمى دولة محتلة لمصر.

عندما قامت ثورة الضباط الأحرار ٢٣ يوليو ١٩٥٢، كان التوجه لتوثيق العلاقة التقليدية مع الغرب، حتى اندلعت أزمة السويس ١٩٥٦، بسبب تأميم القناة، رداً على رفض البنك الدولي تمويل السد العالي. كان الخيار، عندها التوجه شرقاً ناحية الاتحاد السوفيتي، رغم أن ذلك لم يرق للشعب المصري، بسبب الطابع الإلحادي لماركسية السوفيت. مع ذلك نجح عبد الناصر في تعميق أواصر الصداقة والتعاون مع السوفيت، دون ما اعتبار يذكر لتوجه وموقف الشعب المصري من تلك العلاقة.

يأتي الانفصام الأكبر بين واقع البيئة الداخلية للنظام المصري، وحركة السياسة الخارجية للقاهرة، بمبادرة السلام التي أطلقها الرئيس السادات تجاه إسرائيل ( ٩ نوفمبر ١٩٧٧ )، التي تُوجت بتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل (٢٦ مارس ١٩٧٩). لم يكن الشعب المصري راضياً عن تلك المعاهدة، ويصر حتى الآن على مقاومة أي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل.

إذن: تاريخياً، كانت السياسة الخارجية لمصر تصيغها وترسمها وتنفذها الحكومات المصرية المتعاقبة، بغض النظر عن مصدر شرعية وجودها في سدة الحُكم. لعلَ هذه الخاصية للسياسة الخارجية المصرية، أعطت الحكومات المصرية المتعاقبة مرونة أكبر في التحرك على الساحة الدولية والإقليمية، دون ما حاجة إلى أخذ المتغير الداخلي، في عين الاعتبار. ربما يعود ذلك إلى طبيعة ثقافة الدولة ومن ثمّ النظرة لـ «قدسية» السلطة في مصر التي تضرب جذورها لسبعة آلاف سنة. أيضاً حديثاً: قد يكون ذلك راجعاً لعدم نضوج التجربة الديموقراطية في الحياة السياسية المصرية، بعد.

صحيح أن هذه المساحة من المرونة في الحركة للسياسة الخارجية المصرية، أكسبتها في فترة الحرب الباردة قدرة كبيرة على المناورة ومساحة أكبر من حرية الحركة على الساحة الدولية، خاصة في علاقات مصر مع الدول العظمى... وكذا على المستوى الإقليمي، كما نرى في نموذج مجموعة دول عدم الانحياز، إلا أن هذا «التكتيك» في الاقتراب من القضايا الإقليمية الدولية، قد لا يفيد أو بالإمكان الأخذ به للتعاطي مع القوى الدولية، وحتى الإقليمية الصاعدة، في النظام الدولي الحالي.

قد يسمح الكبار بدرجة ما من المناورة في علاقات مصر الخارجية، لكن ذلك بحدود. على سبيل المثال: قد تسمح الولايات المتحدة، وهي من احتكرت التعامل الإستراتيجي مع مصر للأربعة عقود الماضية، بأن تشتري مصر السلاح من روسيا وفرنسا.. وأن تسمح للروس بإنشاء محطة طاقة نووية في مصر، وأن توثق القاهرة علاقتها التجارية مع موسكو. إلا أن واشنطن من المؤكد أنها لن تسمح للروس ولا حتى للمصريين، أن تتطور العلاقة بينهما إلى مستوى إستراتيجي متقدم، يضر بالبنية الإستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة. الولايات المتحدة، على سبيل المثال: لن تسمح للروس بإقامة قواعد عسكرية دائمة في مصر، مثل تلك التي يزمع الروس إقامتها في سورية. كما أن الولايات المتحدة لن تسمح بأن يتمادى التعاون المصري الروسي في سورية، للإضرار الحقيقي بوضع ومصالح واشنطن في المنطقة، ولا الإضرار بمصالح وأمن حلفاء واشنطن في المنطقة.

كما أن اصطلاح الكبار في النظام الدولي الحالي لا يقتصر فقط على المتغيرات الإستراتيجية، ذات العلاقة بالهيمنة الكونية فقط، كما كان الحال في عهد الحرب الباردة. في النظام الدولي الحالي نجد حركة نشطة لقوىً إقليمية صاعدة تساهم بقوة في تطورات أحداث المنطقة. تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية، تتجاوز اهتماماتها الأمنية، وكذا عند بعضها طموحاتها التوسعية، خطوط حدودها الإقليمية التقليدية. السياسة الخارجية المصرية عليها أن تأخذ في اعتبارها هذ المعطيات لطبيعة الصراع في المنطقة، التي تجاوزت ذلك الصراع التقليدي المتمثل في مقاومة وجود إسرائيل على الأمن القومي العربي.

هذه الخاصية الانفصامية بين السياسة الداخلية والخارجية المصرية، وكذا هذه التطورات التي حدثت على طبيعة ومستويات وأطراف الصراع في المنطقة، بالإضافة لتجذر المشكلة الاقتصادية في مصر وتعقيد المتغير السياسي غير المستقر داخلياً، جميعها يشكك في ما عرف بمكانة الريادة الإقليمية لمصر في المنطقة. صحيح أن مصر، مؤخراً، لم تعد تزعم مكانة الريادة الإقليمية أو تسعى إليها، إلا أن على صانعي السياسة الخارجية المصرية أن يعوا أنهم يتعاملون مع كبار كثر (دوليين وإقليميين) في المنطقة، مما يقتضي الحذر الشديد في الاقتراب من القضايا القومية الكبرى، حتى تبقى مصر عضواً رئيسياً فاعلاً في النظام العربي، وتضمن لها موقعاً بين الكبار.

طلال صالح بنان- عكاظ السعودية-