السلطة » خلافات سياسية

السعودية وإيران في ميزان: لماذا ترجح كفة الثانية دائمًا

في 2016/10/28

«إن صنعاء تضاف اليوم إلى ثلاث عواصم عربية أصبحت اليوم بيد إيران»، هكذا أعلن المندوب بالبرلمان الإيراني «علي رضا زاكاني» عقب استيلاء «مليشيات الحوثي» على العاصمة اليمنية صنعاء فى شهر سبتمبر (أيلول) سنة 2014. لم تلبث السعودية كثيرًا، بعد هذا التاريخ، حتى بدأت عملياتها العسكرية في اليمن ـ التي أطلقت عليها عاصفة الحزم –  بغرض إعادة حكومة الرئيس اليمني «عبد ربه منصور هادي» إلى سدة الحكم في اليمن. ومنذ ذلك التاريخ وقبله، وما زال الحوثيون يسيطرون على العاصمة اليمنية، وما زال النفوذ الإيرانى يتمدد في المنطقة من لبنان والعراق إلى سوريا واليمن.

أما على الصعيد العالمي، فقد نجحت إيران في التوصل إلى اتفاق نووى مع القوى العظمى في العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة لرفع العقوبات الاقتصادية الصارمة عليها، وبات الجميع يعلم أن إيران في طريقها إلى إنتاج سلاحها النووى. وعلى العكس من إيران، فإن السعودية ظلت تنتقل من فشل إلى فشل، فمن فشلها الذريع فى اليمن – الذي استنزف طاقاتها الاقتصادية والعسكرية – إلا قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب (جاستا )» الذى أقره «الكونجرس» الأمريكي، دون أي اعتبار لصداقة السعودية، وحلفها القديم مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وفى ضوء هذه الأحداث جميعًا، بتنا جميعًا في العالمين العربي والإسلامي نتساءل: ما الذي أدى بالسعودية – التي كانت تُعتبر أحد أكثر القوى الإقليمية تأثيرًا – إلى هذا المنحدر الصعب في تاريخها؟ وما الذي أدى إلى هذا التغول الإيرانى غير المسبوق في الشأن الداخلي لكثير من دول المنطقة؟ ظهرت كثير من الإجابات التي تستدعى نظريات المؤامرة، وتشرح  كيف اجتمعت جميع قوى الكون الشرير للقضاء على الإسلام السني، وتدمير رمز العروبة والإسلام «المملكة العربية السعودية ». في هذا المقال، سأحاول تقديم إجابة أكثر قابلية للتصديق والإثبات من هذه الإجابات المؤامراتية التي لا تصمد أمام النقاش العقلي السليم.

الوزن النسبي لكل من إيران والسعودية

يُعتقد أن القدرات المادية لدولة ما الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، بالإضافة إلى قوتها الناعمة الثقافية والتاريخية، أهم العوامل التى تحدد عمق التأثير الاستراتيجى لهذه الدولة في نطاقها الإقليمي. وكلما ازدادت هذه القدرات قوة كلما ازداد اتساع تأثير هذه الدولة، وازدادت قدرتها على إنفاذ إرادتها وتحقيق مصالحها.

باستخدام هذا المنطق، يمكننا أن نقارن بين الوزن الاستراتيجى لكل من السعودية وإيران، ومن ثم تقدير التأثير النسبي لكل منهما على الساحة الإقليمية والدولية، ولكننا نجد أن هذه العوامل لا تكفي وحدها لتفسير التفوق الإيرانى في مقابل الإخفاق السعودي في المنطقة والعالم.

فعلى الصعيد الاقتصادي، فإن الدولتين تعتمدان بشكل أساسي على إنتاج وتصديرالنفط. فلذلك يظهر التقارب بين المستوى الاقتصادى لهما مع تفوق سعودي ملحوظ.  يظهرهذا عن طريق مقارنة الناتج القومى لكل منهما، فبحسب تقديرات البنك الدولي لعام 2015 بلغ الناتج القومي الإجمالي للسعودية حوالى الستمائة وستة وأربعين مليار دولار، بينما بلغ الناتج القومي الإيرانى حوالى أربعمائة وخمسة وعشرين مليار دولار في العام نفسه، كذلك يظهر تقارب مستوى الدولتين على الصعيدين التكنولوجي والعسكرى.

فعلى الصعيد التكنولوجي، فإن السعودية بها 4 جامعات من ضمن أعلى 500 جامعة فى العالم بحسب التصنيف الأكاديمي للجامعات حول العالم، بينما تدخل جامعة إيرانية واحدة ضمن هذا التصنيف. وكذلك فإن الجامعات السعودية تُعتبر من أكثر الجامعات العربية والإسلامية إنتاجًا لبراءات الاختراع والأبحاث التقنية والتكنولوجية المتطورة، وهى بذلك تفوق غريمتها إيران في هذا المجال.

أما على الصعيد العسكري، يظهر التفوق العسكري الإيراني، إذا ما قورنت بالسعودية على موقع Global Fire Power  الذي يُعنى بقياس القدرات العسكرية التقليدية لجميع دول العالم، حيث تحتل إيران المركز الحادي والعشرين عالميًا، بينما تحتل السعودية المركز الرابع والعشرين، ومع ذلك، فهو تفوق طفيف لا يُمكن الاستناد عليه في تفسير تغول التأثير الإيراني في المنطقة في مقابل هذا الفشل السعودي على جميع الأصعدة.

وأما بالنسبة للعوامل الثابتة من تاريخ وثقافة وموقع جغرافي، فكان من المفترض أن تكون الممكلة العربية السعودية هي صاحبة السبق في منطقة الشرق الأوسط، فإن لها مكانة تاريخية وثقافية كبيرة جدًا، فعلى جزء من أرضها كان مهد الإسلام، وهي كذلك حاضنة الحرمين الشريفين، وهي منبع اللغة العربية التي يتحدثها أغلب سكان منطقة الشرق الأوسط، على عكس إيران التي تتحدث اللغة الفارسية، الغريبة على أهل المنطقة، وصاحبة إرث الدولة الصفوية التي كانت على مدار تاريخها الخصم اللدود للدولة العثمانية التي كانت تضم جميع الدول العربية تقريبًا تحت لوائها.

كذلك فإن المملكة العربية السعودية تقع في موقع جغرافي مثالي يتوسط جميع دول المنطقة، فعلى حدودها الشمالية تقع جميع بلاد الشام من الأرن إلى فلسطين إلى لبنان إلى سوريا، وفى الجنوب تقع اليمن وسلطنة عُمان، ومن ورائهما المحيط الهندي، وعلاقة الممكلة التاريخية بهما وثيقة إلى حد كبير. وكذلك فإن مصر والسودان تقعان على حدودها الغربية. ومن وراء مصر جميع بلاد شمال إفريقيا وموريتانيا. وأما العراق، ودول الخليج فتقع على حدود السعودية الشرقية. هذا على عكس إيران، التى تقع في أقصى شرق المنطقة، ولا تتصل جغرافيًا، إلا بالعراق ودول الخليج، ولكن هذا بالطبع كان قبل هذا التوغل غير المسبوق في شؤون الكثير من دول المنطقة.

فإذا كان هذا هو الحال بالنسبة لجميع هذه العوامل الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية أو التاريخية والثقافية والجغرافية، إما تفوق سعودى ظاهر، أو تفوق إيراني طفيف. فلماذا إذن نرى هذا النجاح الإيراني الكبيرعلى الساحة الإقليمية والدولية، بينما نرى السعودية تنحدر من فشل إلى فشل، ومن إحباط إلى إحباط؟

في كتابه الشهير «العمق الاستراتيجي»، يُقدم لنا «أحمد داوود أوغلو»، – رئيس وزراء تركيا السابق – تفسيرًا لهذه الظاهرة المتمثلة في تفوق بعض الدول أكثر من مثيلاتها في استغلال ما لديها من مقومات مادية ومعنوية في زيادة عمقها الاستراتيجي، وتوسيع دائرة تأثيرها الإقليمية والعالمية عن طريق معادلة العمق الاستراتيجي التالية:

السعودية وإيران

إن معادلة العمق الاستراتيجي، التي قدمها أوغلو في كتابه، تأخذ فى الاعتبار جميع العوامل التي قدمنا لها، ولكنها تضيف ثلاثة عوامل مركزية شديدة الأهمية، وهي:

الذهنية الاستراتيجية.
التخطيط الاستراتيجي.
الإرادة السياسية.

ولكننا نلاحظ أيضًا أن أوغلو لم يكتف بإضافة هذه العوامل إلى المعادلة فحسب، ولكنه جعلها ذات أهمية خاصة جدًا في تحديد العمق الاستراتيجي العام للدولة، حيث جعلها مضروبة في باقي أجزاء المعادلة، وليست فقط مضافة إليها. وعلامة الضرب هذه تعطي هذه العوامل الثلاثة القدرة على التأثير الكبير في النتيجة النهائية، حيث إن أي زيادة طفيفة فيها تؤدي تلقائيًا إلى مضاعفة جميع أجزاء المعادلة بشكل ملحوظ. بمعنى أنه إذا ما امتلكت دولة ما ذهنية استراتيجية واعية، أو تخطيط استراتيجي مدروس، أو إرادة سياسية صلبة، فإنها تستطيع ببساطة مضاعفة إمكاناتها المادية والمعنوية المتغيرة والثابتة، بحيث تصبح أكبر بكثير من قيمتها المجردة.

إذا ما أضفنا هذه العوامل الثلاثة إلى المقارنة بين السعودية وإيران، فإن الصورة تتضح تمامًا كضوء الشمس في رابعة النهار، دون الحاجة إلى اللجوء إلى تفسيرات مؤامراتية أو تحليلات كونية. و يمكننا حينها الإجابة بكل سهولة ويسر عن هذا السؤال المحير، كيف حققت إيران هذه النجاحات الكبيرة في مقابل الإخفاق السعودى غير المسبوق؟

لماذا ترجح كفة إيران في الميزان؟

إن إيران تمتلك من هذه العوامل الثلاثة؛ ما يجعلها تستغل مقوماتها أحسن استغلال، فإن استراتيجيتها واضحة ثابتة راسخة، ومتوافقة بشكل تام مع عقيدة الدولة وأفكارها ومبادئها. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ تأسيسها في أواخر سبعينات القرن العشرين، وهي تقوم بكل ما تستطيع لتصدير ثورتها ومبادئها إلى مجتمعات الشرق الأوسط الأخرى. تفعل ذلك مبدئيًا عن طريق تأسيس منظمات عسكرية قوية حين تسمح لها الفرصة بذلك، مثلما أسست ودعمت حزب الله اللبناني الذي يُعتبر ذراعها القوية في لبنان والشام والمنطقة بأسرها. فإن لم تستطع تأسيس تنظيم عسكري، تقوم بالدعم القوي والمباشر لأكثر هذه التنظيمات شعبية في بلادها، وأوضح مثال على ذلك دعم إيران لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» بفلسطين، بالرغم من الاختلافات العقائدية بينهما، ودعمها الآن للحوثيين في اليمن. كذلك تتدخل إيران بشكل مباشر في شؤون العراق عن طريق الأحزاب والجماعات والعصابات المسلحة الموالية لها، حتى بدت العراق وكأنها ولاية إيرانية خالصة في كثير من الأحيان. وهي بدعمها نظام «بشار الأسد» غير المشروط رسخت وجودها في سوريا أكثر فأكثر. وهي بعد ذلك كله، تسعى جاهدة لتطوير قدراتها النووية التي سوف تمكنها في نهاية المطاف من امتلاك هذه الأسلحة الفتاكة، بالإضافة إلى التطوير الشامل في تقنياتها العسكرية بالتعاون مع حليفتها روسيا. والأهم من ذلك أنها تقوم بكل هذا، دون الالتزام بأي شيء تجاه أمريكا أو الدول الغربية الأخرى، ولا تعتمد عليهم في أي من ترتيباتها الأمنية أو الاقتصادية، فقد كانت إيران حريصة دائمًا على إظهار نفسها بمظهر الممانع والمقاوم للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، وهي وإن فعلت ذلك في العلن فقط، فإنها تحفظ به ماء وجهها أمام شعبها وقواعدها. وأخيرًا، فإن النظام السياسي الإيراني – وإن غلب عليه الاستبداد – فإنه يظل نظامًا جمهوريًا يُنتخب فيه الرؤساء ويُحاسبون ويُعارضون؛ مما يؤدي إلى التصحيح الدائم للمسار وضمان تولية الأكفاء وعدم تكرار الأخطاء.

أما السعودية، فلا تملك أيًا من هذه المقومات الثلاثة. فلا هي تملك ذهنية استراتيجية، ولا تخطيطًا استراتيجيًا، ولا إرادة سياسية. فالسعودية منذ إنشائها، وهي تعتمد في سياستها الخارجية المرتبكة دائمًا مبدأ التعامل مع الأزمات بعد حدوثها والصداقة غير المشروطة مع أمريكا والدول الغربية والاعتماد عليهم اعتمادًا مطلقًا في ترتيباتها الأمنية والاقتصادية. لم تستطع السعودية مقاومة اتساع نفوذ حزب الله في لبنان،  والحوثيين في اليمن، ولا أتباع إيران في العراق. كذلك قامت بإجهاض جميع ثورات الشعوب على حكامها المستبدين، ودعمت أنظمتها العسكرية الانقلابية بكل ما تستطيع من مال ونفوذ؛ فما لبثت أن استيقظت على خيانة هذه الأنظمة لها وتخليهم عنها. وعلى هذا فقد اعتمدت المملكة سياسة علمانية تمامًا في جميع شؤونها، بالرغم من اعتماد شرعية السلطة فيها على دعوة «طاعة أولياء الأمر»، التي يلوكها فقهاؤها بأفواههم ليل نهار، وبذلك خرجت سياساتها جميعًا متعارضة تمامًا مع مبادئ قواعدها ومعتقدات شعبها الذي يتعلم الولاء والبراء في المدرسة، ثم يخرج فيجد حُكامه يوالون ويصادقون أعداء الأمة من اليهود والنصارى، فيضطرون إلى اللجوء إلى الأعمال التخريبية واتباع كل ناعق ينعق بمعارضة هذا النظام المرتبك. وأخيرًا فإن النظام السياسى السعودي هو أحد آخر أنظمة الملكية المطلقة في العالم، حيث يحكم البلاد ملك واحد بحكم إرثه عن أبيه أو إخوته، فيقوم بالحكم هو ومن يواليه بما يشاؤون، وكيفما يشاؤون، فلا مراقبة، ولا محاسبة، ولا معارضة؛ فتهدر الأموال والجهود وتُزهق الأرواح وتُبدد الطاقات؛ فتتراكم الأخطاء، ويُولي الضعفاء، وتظهر الرعونة، وتغيب الحكمة. وأنى لنظام مثل هذا أن يستغل قدراته المادية أو المعنوية، بل لعل المستغرب أن يظل مثل هذا العبث كل هذا الوقت، دون انهيار.

والنتيجة المحتمة لكل هذا الفشل تكون تخلي الأصدقاء وتغول الأعداء؛ فالضعيف لا يكون إلا فريسة، والصديق القوى لا يريد تحمل أعباء محالفة صديقه الضعيف. فلذلك نرى تقاربًا أمريكيًا إيرانيًا، بينما نرى أمريكا تقلب للسعودية ظهر المجن، وأول ذلك قانون «جاستا»، وأوسطه إعلانها مراجعة المساعدات التي تقدمها للتحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن وآخره لا يعلمه إلا الله.

الخلاصة

إن الدرس الذى يجب أن نتعلمه جميعًا من هذه المقارنة القاسية بين السعودية وإيران هو أن تمتع لأية أمة بقدرات مادية ومعنوية كبيرة لا يكفي وحده لأن تكون هذه الأمة صاحبة سيادة وتأثير، إلا أن تصحبه ذهنية استراتيجية واعية متوافقة مع مبادئ الأمة ومعتقداتها وتخطيط استراتيجى حكيم وإرادة سياسية صلبة قوية. وهذا ببساطة هو الفرق الجوهرى بين السعودية وإيران وهو الحجر الثقيل الذى جعل كفة الثانية ترجح كفة الأولى، لا المؤامرات الصهيونية، ولا المخططات الكونية.

أحمد البوهي-