السلطة » خلافات سياسية

رسل الملك إلى الشيخ عيسى قاسم... ونهاية السلام البارد!

في 2016/10/31

إعادة قراءة التاريخ تجعل المرء يظن بأن اجتماع المعارضة مع الملك في 19 مايو/أيار 2004، كان سيفضي إلى نقطة انعطاف.
  (انظر الحلقة الرابعة: الملك مستمعا للشيخ عيسى قاسم!)

استمع الملك للشيخ عيسى قاسم، استمع له في كل خطبة جمعة، لا حين التقاه فحسب. كان الشيخ أوّل من دعا الملك إلى حوار مع المعارضة، وتحت عنوان الحوار، وّجه الملك وزير العمل للقاء الجمعيات السياسية. على مدى أشهر، سيراقب الشيخ الحوار المفترض بكل جدّية، وسيناضل لمنعه من الفشل حتى اللحظة الأخيرة.

سيبعث الملك للشيخ رسلا، ليقولوا ما لا يريد قوله بلسانه. رأى البعض رسل الملك سعاة بريد، وكلاء، أو وسطاء. سمّهم ما شئت، لكنّهم كانوا آلة من آلات هذا السلام البارد، استبدلت اليوم بآلة العسكر التي تحاصر الشيخ في الدراز منذ 3 أشهر.

«لانريد أن ندخل في مواجهة مع النظام، ولا مقاطعة له، ولا قطيعة معه». ردا على سوسن الشاعر، قال الشيخ عيسى ذات خطبة بأن الحديث عن قطيعة بينه وبين النظام قول زور. وتحدّث عن أكثر من لقاء مع «جلالة الملك» في الشأن العام ومصلحة الوطن.  

لقد ذهب الشيخ إلى عرض استدلالات فقهية ليثبت أن لا شيء يعارض المذهب في اعتراف الشيعة بالملك والنظام الملكي. ولكن كيف يمكن أن تقول للملك بكل ود: إن نظام حكمك ملكي مطلق، وليس ملكيا دستوريا؟ ومع ذلك تحافظ على علاقة طيبة به؟ هذا ما كان يحاول الشيخ عيسى قاسم أن يقوم به طوال 4 سنوات.

ماذا كانت النتيجة؟

الحوار مع «رسول الملك» المعارض السابق

هكذا سيتوقّف الحديث عن العريضة، بعد لقاء الملك، وسيدور عن الحوار. فوّض الملك وزير العمل مجيد العلوي لتمثيله في الحوار، أو هكذا صوّر المشهد السياسي آنئذ.

في 28 مايو/أيار 2004، سيتحدّث الشيخ عيسى قاسم بحماس عن الحوار المعلن، معنونا له بـ«المفاوضات في الشأن العام».

إشكالية هذا الحوار المفترض ليس أنّه سيجري مع ذات الوزير الذي كان حتى وقت قريب في صفوف المعارضة، ذات الوزير الذي هدّد بغلق الجمعيات، وذات الوزير الذي يمثّل «رسول الملك» للشيخ عيسى قاسم. لكن الإشكالية هي أجندة هذا الحوار، ومن يدير مشهده فعلا، خصوصا إذا علمنا أن وزير الديوان كان قد كلّف بالاشتراك فيه أيضا، حتى دون أن يحضر.

جرى أول لقاء في 27 يونيو/حزيران 2004، بمقر وزارة العمل. ناقش الطرفان المسألة الدستورية، وخرج قادة المعارضة بتعبيرات مشحونة بالتفاؤل والحماس، وأُعلن عن عقد الجلسات بشكل أسبوعي.

في الجلسة الثانية أعلن بأن أية تعديلات دستورية أو قانونية هي ممكنة وقابلة للدراسة، غير أن تنفيذها يكون عبر «قناتها القانونية الوحيدة» وهي المجلس الوطني. ثم أعلن عن استمرار الحوار 6 أشهر، أي حتى فبراير/شباط 2005 (ذكرى الميثاق الوطني).

ورغم أن الحوار كان يفترض أن يجري مع قادة الجمعيات السياسية، إلا أن الشيخ علي سلمان اصطحب معه الأستاذ عبد الوهاب حسين*. اتجه الحديث إلى تقديم الجمعيات «مرئيات» للتعديلات الدستورية، وتأجيل الحوار شهرا ونصف.    

اللعب خارج الملعب: عالم جليل، «ولد زعلان»، ووزير غير مؤهّل!  

لم يكد يمضي أسبوع على الجلسة الثالثة، حتى خرج وزير العمل بتصريحات صاعقة، في أوّل هزّة للحوار. قال العلوي إنّه لا يعتبر الحوار خطوة تاريخية، وإنه لا يوجد أجندة أعمال حتى الآن، وإن هدف النقاشات إقناع المقاطعين بالمشاركة. كما قال إن الجمعيات لا يمكنها التحاور مباشرة مع الملك، وإن ذلك لعب خارج الملعب. واعتبر نفسه غير مؤهل لمناقشة تعديلات دستورية، وأنّه قد لا تحدث أي تعديلات: «ليدخلوا الانتخابات ويجروا التعديلات من الداخل»!

وفضلا عن ذلك، بيّن العلوي (ممثل السلطة كما وصف نفسه)، أنه يصدر عن موقف سياسي مسبّق، وهو أن المعارضة أخطأت في المقاطعة، وأنّهم لا يمثّلون سوى أعضائهم، وشبّه المعارضة بـ«الولد الزعلان»  الذي يجلس في الخارج لأنه لم يسمح له باللعب، حسب تعبيره (لكنّه قال إن ممثليهم في الحوار أناس محترمون ولهم تاريخ ونشاط، وإنه يقدرهم كثيرا) في حين جاهد لإثبات أن الملك لم يكن لديه سوء نيّة حين أصدر دستور 2002.

عن الشيخ عيسى قاسم، قال العلوي إنه «عالم جليل وأستاذنا. وهو صاحب نظر ثاقب، وصاحب غيرة على الدين والشعب» وذكر أنّه يأتمُ به في الصلاة. وقال أيضا إن «علماء الدين لهم مكانة خاصة، وعليهم مسئولية خاصة، وأنا متأكد أنهم يتحملون مسئولياتهم...لست في موقع أن أدعوهم، بل هم الذين يدعونني إلى الصلاح».  

لن ينتظر العلوي طويلا حتى تصله دعوات العلماء. رد الشيخ عيسى قاسم عليه جاء بأسلوب مباشر «تصريحات تبقي التفاوض بلا موضوع، وتنفي التفاوض صراحة... والنظام حين فتح باب الحوار لم يفتحه -في ما يقدَّر- هازلاً، وإنما فتحه جاداً».

دعا الشيخ الوزير إلى العدول عن تصريحاته «وهل يدري الوزير أن عدم التعديل لهذه التصريحات والاستقرار عليها ينهي عملية الحوار و ينسفها، ويضر بالمسار الإصلاحي.. ويوسع دائرة المقاطعة عمَّا كانت عليه؟»

لا نعلم إن كان العلوي حاضرا في تلك الخطبة أم لا، لكنّه على أي حال وقع بين المطرقة والسندان. كان واضحا أنّه يتحدّث بلسان الملك. لكنّ دوره وشخصيته يضطرّانه إلى الحفاظ على علاقة قوية بالشيخ عيسى قاسم.

الملك مستعد

استمر تراشق التصريحات، وردّت المعارضة غاضبة ببيان، ثم عقدت ندوة عن الحوار قال فيها الأستاذ عبد الوهاب حسين إن هناك أسبابا تدفع الملك أن يقدم للمعارضة ما يقنعها للمشاركة في الانتخابات، وفي لقاء مع جريدة الحياة ذهب الأستاذ إلى أن «الملك مستعد لإجراء تعديلات دستورية، لكن سقفها غير معروف».

هدد الشيخ علي سلمان برفض الحوار والعودة للمواجهة، إذا ما تبيّن أنه يفتقد الصدقية والجدية. وكان من المتوقع أن يستأنف الحوار بين العلوي والمعارضة بداية سبتمبر/أيلول 2004، لكنّه تأجل دون سابق إنذار، واتّهمت المعارضة الحكومة بتأجيله بسبب ما حدث من تجاذبات.

في 11 سبتمبر/أيلول 2004، اجتمع العلوي بالمعارضة من جديد. خفّف الجميع من شأن التراشقات الصحفية الحادة التي تبادلوها خلال الشهرين السابقين. ونقل العلوي عن الملك «حرصه» على استمرار الحوار، و«إن الحكومة مهتمة بموضوع الحوار كثيرا». اتفّفق الجانبان على تسليم الوزير مرئيات التحالف الرباعي في التعديلات الدستورية لرفعها إلى الملك والحكومة، وأن يكون الرد عليها في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2004 بعد دراستها.

نهاية الحوار بلا انعطاف تاريخي

في 26 سبتمبر/أيلول 2004، قدّمت الجمعيات مرئياتها للتعديلات الدستورية إلى مجيد العلوي. كانت البلاد في ذلك الوقت تمر بأجواء متوتّرة، بعد اعتقال عبد الهادي الخواجة وحل مركز البحرين لحقوق الإنسان، ونشوب تظاهرات مناوئة للحكومة ومطالبات باستقالة رئيس الوزراء. (انظر: السجال بين قصر الصافرية وجامع الدراز)

كان القصر غاضبا، وكان من المفترض عقد اجتماع بين المعارضة ووزير العمل للاستماع إلى رد الحكومة بتاريخ 13 أكتوبر/تشرين الثاني 2004، إلا أن الوزير بعث رسالة لتأجيل الاجتماع. وبعد 6 أيام نشرت جريدة الأيام خبراً كاذبا عن لقاء مزعوم بين المعارضة والسفير البريطاني، ونقلت عن وزير العمل أن السلطات قرّرت تعليق الحوار لهذا السبب.

تلك كانت حجة إنهاء الحوار. مخرج هروب واضح، فلم يكن لدى النظام أي جواب على مطالب تعديل الدستور، ولم يعد يرغب في سماع مزيد من هذا الكلام الذي يأخذ طابعا رسميا.

مع ذلك، وفي استدراك خجول، عاد الوزير في اليوم اللاحق ليقول بأن لا أحد يشكك في ولاء المعارضة وإخلاصها، ووعد مجدّدا باستئناف الحوار قريبا، وقال إنّه تأجّل للدراسة.  

أقل ما قيل عن العلوي حينئذ إنه لم يكن واضحاً «فيما إذا كان يمثل نفسه، أم يمثل الحكومة، أم يمثل الإرادة الملكية». سيعقّب الراحل النعيمي على الوزير وقتها بأنه ورغم تناقض تصريحاته «وسيط خير.. إلا أن الأمور أكبر منه». تفسير النعيمي لتأجيل الحوار كان أن الوزير «لم يتسلم الرد (من فوق)».

وبعبارة أخرى، فالدكتور العلوي حتى في جلسات الحوار، كان رسولا.  

أبرز ما ناقض هذه النهاية، خطاب الملك في البرلمان الذي سبقها بأيام فقط. أعلن الملك تكليف ولي العهد بمتابعة الحوار الوطني الجاري، وتحدّث عن الشجاعة في أن تصارح الدولة مواطنيها بالمشكلات، معتبرا ذلك استكمالا لمسيرة الإصلاح التي بدأت «باستفتاء الميثاق وتفعيل الدستور»، والتي قال عنها إنّها «منعطف في تاريخ كفاحنا الطويل من أجل الحرية والتقدم والعدل».

لم يتّصل العلوي، ولم يتّصل ولي العهد، ولم ينعطف التاريخ. هكذا انتهى الحوار!

إخراج العريضة من أدراجها

عادت المعارضة إلى مكاتبها منفعلة، تتدارس ماذا بعد؟ أُخرجت العريضة الدستورية من الأدراج مجددا.

متأخّرا سيكشف الشيخ علي سلمان أن 70 ألفا وقّعوا على العرضة. في منتصف يناير/كانون الثاني 2005 بعثت الجمعيات برسالة إلى الملك لطلب لقاء من أجل الحوار حول المسألة الدستورية وتقديم العريضة الشعبية. رفض وزير الديوان الملكي ترتيب اللقاء، وطلب منهم تسليم العريضة للمجلس النيابي.

في 31 يناير/كانون الأول، قامت الجمعيات بإرسال العريضة الدستورية إلى الملك عبر البريد الممتاز، لكن البريد أشعرهم بأن الديوان الملكي رفض تسلم الرسالة، وهم بدورهم رفضوا استعادتها!

ولأنّ لقاءه بالملك ذهب مع الريح، آثر الشيخ عيسى قاسم الصمت، حتى 10 ديسمبر/كانون الأول 2004 (بعد انتهاء قضية الخواجة). لكنّه ذهب في استعراض الخلاف والمشاكل بين المعارضة والنظام بصورة أكثر جذرية، متحسّسا هواجس الملك التي تمنعه من إصلاح حقيقي!

الشيخ يجيب هواجس الملك عن الفكر الشيعي

قال في الخطبة إنّه سيتحدّث في قضية حساسة وبلغة صريحة: «العلماء وكذلك الرموز السياسية وعموم الشعب، مستعدون تماماً أن يطمئنوا النظام الحاكم في البلد بأنهم لا يستهدفون زعزعته والتأثير السلبي على أمنه... وليس داخلاً في حسابهم أن يناهضوا وجود هذا النظام الرسمي».

على مدى خطبتين، استعرض الشيخ تنظيرا مطوّلا لحل إشكالية التعارض بين الحكم الوراثي، والفكر السياسي الشيعي، الذي قال إن النظام ربما يعيش هواجس خاصةً منه، بما فيه من مسألة الإمامة وولاية الفقيه. أراد الشيخ أن يسكن هذه الهواجس ويظهر زيفها، باستخدام ذات أدوات الواقعية السياسية، التي يبرع فيها. ختمت الخطبة بأن «الحاجة ملحّة لتوافق دستوري عاجل على طريق إصلاحي ...أثبت تجذّراً».

وبعد أسابيع، تحدّث الشيخ إلى صحيفة الوسط «توقف الحوار من جانب الحكومة يمثل صدمة... وهو مدعاة لتعقيد الأمور». نصح الشيخ الملك بإعطاء مشروعه الإصلاحي سقفه اللائق، لكنّه قال مطمئنا (حتى هذا الوقت) إن ما يحدث اليوم «لا يعني تساوي حالتي ما بعد الإصلاح وقبله».

المؤتمر الدستوري الثاني

إثر فشل الحوار، تحدث الشيخ علي سلمان عن طرح دستور بديل والتصويت عليه شعبيا، أو تشكيل وفد من القوى السياسية لزيارة بعض الدول، في حين كانت اللجنة التحضيرية للمؤتمر الدستوري الثاني تكمل استعداداتها.

في 10 فبراير/شباط 2005، انعقد المؤتمر الدستوري الثاني، وشهدت بعض جلساته نقاشات حادة وتلاوما وإحساسا باليأس. شعر الحاضرون بتكرار أنفسهم وكرهوا ذلك. ذهب البعض حتى إلى فكرة رفع قضيّة على حكومة البحرين.

خرج المؤتمر بشعار جديد، يشي بمدى حساسية الأمور «الإصلاح الدستوري أولا». لم نعرف إذا كان هذا الشعار موجّها للنظام، أم للجمعيات السياسية! تحت ذات الشعار، تقرّر تنظيم أول مسيرة ضد دستور 2002، وذلك في 25 مارس/آذار 2005.

عبد الله بن خالد رسولا إلى الشيخ عيسى قاسم

مرّة أخرى سيأتي الشيخ علي سلمان مصعّدا للتحشيد إلى المسيرة. ومرّة أخرى سيستعيد انتفاضة التسعينات وتاريخ المعارضة وأزمات البحرين.

ومثل العريضة الشعبية، ستمر المسيرة بفترة من التعبئة والإثارة. ومرّة أخرى كذلك، ستحاول الحكومة منع التحرّك، بحجّة عدم الترخيص وعدم القانونية. ومع بلوغ التوتّرات أوجها، سيبعث الملك رسله للشيخ عيسى قاسم مجددا، مع أن جرح الحوار لمّا يندمل.

هذه المرة أرسل الملك اثنين من أهم شخصيات الدولة للشيخ عيسى قاسم والسيد عبد الله الغريفي، قبل ليلة واحدة من مسيرة سترة، أحدهما كان  نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الشئون الإسلامية الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة.

عن اللقاء يقول رئيس تحرير الوسط منصور الجمري «يبدو لي أن الرسائل التي تبادلها الطرفان في ذلك الوقت الحرج لم تكن كما ينبغي... ما كان يقصده الشيخ عيسى هو أن دخوله على الخط يتطلب أن يقتنع جمهوره بأن باستطاعته الحديث مع القيادة السياسية عن الشئون العامة بصورة أكثر جدية مما هو الحال الآن».

الجمري وهو القريب من الوفاق، والقريب من دوائر صنع القرار في الدولة آنذاك، والشخص الذي أطلق لقب سيستاني البحرين على الشيخ عيسى قاسم وطالبه بقيادة التيار**، يعتقد أن الملك احترم مقام الشيخ عيسى قاسم، حين بعث له بهذين الرسولين. ويقول مذكرا إن الشيخ عيسى يبقى صمام أمان للدولة والشارع، وإنه حين يقرر التصدي شخصيا للقضايا فإن أكثرية الشارع الشيعي ستستمع له.

مجاز الإشارة الحمراء

وعلى كل، فلم يقف الشيخ في وجه المسيرة رغم ضغوط القصر، ومحاولته إيقافها حتى اللحظة الأخيرة، ولكنّ الشيخ أيضا لم يدعمها علنا. في يوم المسيرة سيأمل الشيخ عيسى لو أن الطرفين قد اتّفقا، وفي خطاب مهدّئ سيشدد «كثيرا على أن المظاهرة إذا حدثت ينبغي أن لا تكون نقطة افتراق نهائية».

قدّرت المعارضة عدد المتظاهرين في مسيرة الإصلاح الدستوري بأكثر من 120 ألفا، رفعوا الأعلام البحرينية بكثافة، وساروا في سترة مطلقين شعارا أثيرا «بالروح.. بالدم.. نفديك يا بحرين».

انتهت التظاهرة بهدوء، لم يخل من تهديد بمقاضاة الوفاق أو غلقها. فورا وقف الشيخ عيسى قاسم «غلق الجمعية سيمثِّل انعطافة على مستوى العلاقات إلى الاتجاه المعاكس... لا ينبغي أبداً أن تُغلق جمعية الوفاق... ولا يُرتقب في الكثير من التصعيد هنا وهناك من العطاء بقدر ما يرتقب من المتاعب».

هدأت الحكومة وعدلت عن ذلك بعد اجتماع مطوّل بين وزيرة التنمية فاطمة البلوشي وقيادات الوفاق. في خطبة الجمعة 8 أبريل/نيسان قدّر الشيخ عيسى قاسم عدم تعرّض الحكومة للمسيرة أو معاقبة الوفاق، موجّها شكره على ذلك للملك تحديدا، دون أن نعرف ما إذا كان اتّصالا ما قد جرى بينهما.

لاحقا وحول منع المسيرات، سيستخدم الشيخ عيسى قاسم مجاز «الإشارة الحمراء»

«إذا أقمت على كل طريق إشارة حمراء، وفرضت أن تستمر هذه الحالة فإن كل أهل المركبات المتعطّلة سيضيقون ذرعا، وستنطلق حركة السير بلا حساب حتى لو كانت تصادمات وحوادث.. وإذا أقمت على كل معبر حاجزاً، وضاق الناس بالحواجز وخافوا على حياتهم فإن الأعرج والضعيف سيُغامر بأن يُحاول القفز على الحواجز، وإن تهدده السكوت... فلنحذر من كثرة الإشارات الحمراء»

الشيخ عيسى قاسم ينسق مع إبراهيم شريف

بعد مسيرة الإصلاح الدستوري، سيتبلور خطاب الشيخ عيسى للقصر، وسيتراكم بتراكم الأزمات والقوانين والمشاكل، كقانون الإرهاب وقانون الجمعيات. سنراه يعيد سرد قائمة الأزمات والقضايا والملفات، زائدة في كل مرة.

وإذا كان الناس والجمعيات السياسية قد أخذوا موقفا متصلّبا من المجلس النيابي وقتها، فقد كان الشيخ عيسى قاسم أكثر تسامحا ومرونة. إثر إعلان المجلس النيابي تحريك الملف الدستوري، كان قد حثّ ضمنا على قبول التعديلات الدستورية حتى لو جاءت عبر المجلس النيابي الحالي «المهم أن يتحقق المطلب الشعبي المحق».

لعب الشيخ عيسى من مركزه دور تقريب وجهات النظر وبناء الثقة بين القصر والمعارضة. وأعاد صياغة المطالب بعيدا عن أن تكون «مطامع سياسية». لكن النظام بقي متمنّعا وصامتا.

في سياق المقارنة مع دعوة المرجع السيستاني العراقيين للمشاركة في الانتخابات، قال الشيخ عيسى قاسم  مقرّعا «الحكومة عندنا في البحرين تدعو للمشاركة السياسية كذلك، ولكن الدعوة هنا فارغة وفوقية بلا إرادة حوار، وبلا أي تنازلات. ينبغي للحكومة هنا أن تأخذ درساً من الواقع العراقي».  

شيئا فشيئا، بدأ تقييم الشيخ عيسى قاسم يعم بالسلب كل التجربة «دعونا نعترف بأننا لازلنا بعيدين بمسافة هائلة عن استحقاقات المرحلة القائمة، وأن الإصلاح المشهود لايبشِّر كثيراً بالإصلاح الموعود، وأن الإرادة السياسية عند الحكم بحاجة إلى ثورة جديدة قوية جدّية من داخلها». وهذه المرة، كان الشيخ هو من دعا القوى السياسية إلى التحرك ومواجهة الحكومة.

وفي الحقيقة لم يقف الأمر عند الدعوة فقط، بل وصل إلى تنسيق علني نادر مع قوى علمانية. ففي 23 أبريل/نيسان 2005، زار وفد الأمانة العامة للمؤتمر الدستوري الشيخ عيسى قاسم، واجتمع به لمناقشة التحركات القادمة ومن بينها عقد مؤتمر وطني حول الأزمة الدستورية. كان على رأس هذا الوفد رئيس جمعية وعد إبراهيم شريف.  ومجددا التقى شريف بالشيخ عيسى قاسم نهاية العام 2005، يصحبه هذه المرة رئيس المؤتمر الدستوري عبد العزيز أبل. وعرض الوفد على الشيخ خطة عملهم لعقد المؤتمر الثالث.

قانون ظالم يمكن الصبر عليه

ذهب الشيخ عيسى قاسم  إلى عدم إحداث الأزمات مع النظام القائم، وعدم مقاطعته، ورغم وقوفه الصارم ضد القوانين الجديدة كقانون الجمعيات وقانون الإرهاب، إلا أنّه منع «التمرّد على مطلق القوانين»، من باب إن هناك نوع من القوانين «قانون ظالم يمكن الصبر عليه إلى حد».

وخطبة وراء خطبة، سيقول الشيخ إن «ركود» الصيغة الدستورية وتراكض القوانين التعسفية وملفات البطالة والتجنيس ووو.. «لا يبقي طعما ولا لونا ولا رائحة للإصلاح»...«ويحبط الآمال التي ولدت في ظل شعاراتها الزاهية».

دستور بني أميّة

لاحقا، سينفخ قانون الأحوال الشخصية النار أكثر في الأزمة الدستورية.

نافيا أن تكون الضمانة الدستورية المطالب بها لسن قانون الأحوال الشخصية، بمثابة اعتراف بشرعية الدستور القائم، سيقول الشيخ عيسى قاسم في ندوة بعد مسيرة الأحوال الشخصية** «حين أطالب بتعديل بالدستور ليس معناه اعترافا بالدستور»، سيعرّف ضرورة التعامل معه «بما هو واقع فارض نفسه... هذا الدستور واقع قائم، غير شرعي، لكنه واقع قائم. هل تعامل كل الجهات معه يعني اعترافا به؟».

وعلى خلاف موقفه الأوّلي، المملوء مرونة، سينأى الشيخ عيسى قاسم بنفسه عن أي اعتراف بدستور 2002، بل سيعود بخطابه إلى التأصيل الديني، مستصغرا دور أي دستور «وضعي» إجمالا: «حتى لو كان دستورا متوافق عليه بين الشعب والحكومة، هذا دستور اضطراري. الدستور الاختياري الذي يجب على المؤمن أن يسعى إليه أي هو تطبيق شريعة الله تبارك وتعالى».

وهنا، من باب القياس، سيضرب الشيخ مثالا مفترضا من التاريخ: زمن بني أميّة وتعامل الشيعة مع الحكم الأموي «لو أنا تعاملت مع الحكم الأموي، حتى لو جاء معاوية ...عن طريق التصويت، ووضعنا دستورا بعيدا عن دين الله، يقرّ مسائل ومواد بعيدة ومخالفة لدين الله، هذا شرعي بالشرعية الوضعية... لكن هل يجوز لي أن أعترف به من داخلي وأن تحتضنه نفسي ويمثل قناعة؟... إذن أنا جاهلي، إذن أنا لا أعترف بالله».

وهكذا، في الجمعة اللاحقة، سيصوغ الشيخ موقفه النهائي من الدستور، وسيعتبر مطلقا «دستور 2002 غير شرعي بالشرعية الوضعية في نظرنا... دستور متخلّف جداً، ومهمّش للشعب. أما دستور 1973 فقد تجاوزه مستوى الشعب.إذاً لابد من دستور تعاقدي من حق الشعب أن يتقدّم بمستواه على مستوى دستور 73». وهذه هي المرة الأولى التي يطالب فيها الشيخ قاسم بدستور جديد.

كما سيصوغ الشيخ حكمه النهائي على قانون الأحوال الشخصية: سيعني سنّه مفارقة الشعب للحكومة وصراعا سياسيا مريرا. وسيصف الإقدام على ذلك رغماً على أنف المذهب وأهله «إعلانا للحرب علينا» وإنه اضطهاد سافر، وأظهر أنواع الاستبداد وأقبحها.

حرب وديكتاتورية

دخل الصراع مفردات خطاب الشيخ عيسى قاسم، قسرا. دائما عن الأحوال الشخصية، سيسأله أحدهم «سماحة الشيخ تقول بأن الملك هو حامي الدين والدولة وهو ضمان»، سيرد الشيخ عيسى قاسم «مع تقديرنا للملك على كل حال إلا أنه بشر».

في مشهد يصعد بشكل واضح، سترمي قضايا الحياة اليومية لرجل الشارع بثقلها على جميع الأطراف. سيُطالَب الشيخ عيسى قاسم بإعطاء قضية العاطلين حيّزا، وستتفاقم الأمور مع حادثة الناشط في حركة العاطلين موسى عبد علي.

بلغة استنكار غاضبة، سيتساءل الشيخ معقّبا على الحادثة «أحرب يا حكومة؟»، وسيصف الحادثة بالعدوانية الصارخة والهمجية والانحدار. واحتجاجا على كل ما يجري سيدعو الشيخ عيسى قاسم إلى مسيرة تحت عنوان «مسيرة الحقوق والكرامة» وسيتقدّمها.  

«لا يمكن أن يعطي عود الشوك شجرة تفّاح، ولا يمكن أن تزرع حنظلاً لتجني عسلاً. والنتائج من سنخ المقدمات... الطريق مخيف، والنفق مظلم، والمقدمات غير مبشّرة».

«والاعتراض على الدستور الحالي سبق ولادته ورافقها وبقي مستمراً إلى اليوم، وسيكون قائماً إلى أن يُستبدل»، هذا هو التفكيك الأخير من الشيخ عيسى قاسم للأزمة السياسية.

في 2 يونيو/حزيران 2006، وتعقيبا على ذات الملفات المتراكمة، سيطلق الشيخ عيسى قاسم حكما استنتاجيا خطيرا «لو كانت الديمقراطية قد بدأت في البحرين جدّاً فإنها بحق قد انقلبت ديكتاتورية»، غاضبا سيقول «قولوا للشعب صراحة قد أردناها ديكتاتورية لا ديمقراطية، من رضي فليرض، ومن غضِب فليغضب، وإننا لآسفون عندما رفعنا شعار الديمقراطية من قبل».  

وهكذا أعاد الشيخ إنتاج خطابه عن مشروع الإصلاح والأزمة الدستورية.

كان هذا مسار خطاب الشيخ عيسى قاسم، وكانت هذه تحولاته، وبهذا السياق ارتفعت حدة خطابه إلى هذا المستوى من الغضب واليأس والإحباط. أزالت الحكومة كل محاذير خطابه السابق، وعلى مدى 4 سنوات الحكومة هي من اشتغلت بتغيير خطاب الشيخ عيسى، ونجحت بالتالي في تحويله من خطاب يتبنى الواقعية السياسية، إلى خطاب يتبنّى الرفض والصراع ويؤمن بجذرية الأزمة. نجحت في تحويله عن القبول بالملك حاكما رمزا جامعا والقبول بالنظام القبلي الحاكم، ودولته الريعية.

وحتى ديسمبر 2004 كان الشيخ لا يرى أن الأوضاع لم تتغير عما قبل المشروع الإصلاحي، كان لا يزال يرى إن هناك مشروع إصلاحي من الملك، ويصر عليه ويؤمن به، ولكن في العام 2005، مرت علاقة الشيخ عيسى قاسم مع الملك بمنعطف خطير.

لم يمنع كل ذلك، من أن يلتقي الشيخ عيسى قاسم بالوزير مجيد العلوي مجددا نهاية العام 2005، بمبادرة من الأخير، لمناقشة مشاريع وزارة العمل لمواجهة قضية البطالة وتوظيف العاطلين. أما اليوم، فقد انقضى زمن الرسل، بانقضاء عهد السلام البارد!

عبد الوهاب حسين كان أكثر المتشدّدين تجاه التعاطي مع الانقلاب الدستوري، ولهذا السبب اختلف علنا مع الشيخ عيسى قاسم، واعتزل إمامة الناس وكلمة الجمعة. على مدار عامين، قاتل عبد الوهاب من أجل توجيه البوصلة نحو الخلاف الدستوري، لكن سياسة الشيخ عيسى قاسم والوفاق كانت مختلفة، حتى العام 2004. ورغم كونه من آباء الوفاق المؤسسين، إلا أنه لم يترشح لإدارة الجمعية. ضمّه إلى فريق الحوار رغم أنه لا يمتلك أي منصب إداري في الوفاق، أعاده إلى الواجهة مجددا، وجاء بسبب دوره التاريخي في التصويت على ميثاق العمل الوطني.

لمزيد عن السياق الذي أطلق فيه منصور الجمري لقب «سيستاني البحرين» على الشيخ عيسى قاسم، أنظر الحلقة الثانية «السجال بين قصر الصافرية وجامع الدراز»

نظّمت مسيرة الأحوال الشخصية في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2005. لمزيد عن المسيرة وأزمة قانون الأحوال الشخصية، أنظر الحلقة الثالثة «آية الله قاسم... أطياف الشيخ خلف في قصر الملك حمد!»

الناشط البحريني موسى عبد علي، المقيم حاليا في لندن، اختطفه ملثّمون تابعون لأحد الأجهزة الأمنية، وتمت تعريته كما تعرّض لاعتداءات بالغة، وألقي في مكان ناء، وقد أثارت قضيّته ضجّة كبيرة وقتها.