السلطة » خلافات سياسية

أزمة قطر وتوقي الفتنة والبحث عن الدليل

في 2017/07/10

محمد السعيدي- الوطن السعودية-

كثيرون سكتوا عن الخوض في الأزمة القطرية وطالبوا غيرهم بالصمت فيها، محتجين بأن الأصل: وقاية اللسان عن الخوض في مواطن الشجار والنزاع، لِمَا يترتب على ذلك من تفاقم البلاء وازدياد المصائب، وليس لدي شك في أن هذا المنهج هو الأصوب لغير أولي الأمر من القادة وكبار أهل العلم، والقائم به على وجهه الصحيح هو الألزم لإرشادات المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالإمساك عن الخوض في الفتن آخر الزمان.

لكن هذا الالتزام لا يصح أن يكون انتقائيا، بل ينبغي أن يكون في كل ما يجري من أحداث أو في غالبها الأعم على أقل تقدير، فمن صَبَرَ نفسه على الصمت في جميع الأحداث أو سوادها الأعظم فهو الممتثل الصادق، إن شاء الله.

أما المنتقي الذي يصف ما شاء من الأحداث بأنها فتنة فيسكت عن الحديث فيها، ثم نراه يتخوض في أحداث أخريات، الشبهة فيها أعظم والحق فيها أكثر خفاء، فهذا عندي ولا شك مبتلى بالهوى في هذا الجانب.

ومثال ذلك من لم تتوقف أقلامهم وألسنتهم عن تأييد الثورات العربية مع ما اكتنف قيامها من الغموض وما عُرِف بالنظر العابر للواقع وتجارب التاريخ من إيالتها للخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات، بل ربما تجاسر أحدهم وردد قول القرضاوي الذي لا يُقِره عليه ورع ولا عقل: «اللهم إن كانت هذه فتنة فأحيني مفتونا وأمتني مفتونا واحشرني في زمرة المفتونين»، ثم لما جاءت أزمة قطر استعاذ بالله من الفتن وأخذ يعِظ غيره ويناصحه بالبعد عنها، فهذا كيف لي أن أثق برأيه أو أصدقه في نُصْحه وتَوَقِّيه ؟!

وكذلك من أصَرّ في أزمة قطر على المطالبة بالدليل، وأبى قبول موقف المملكة العربية السعودية ومن معها على اعتبار أنهم لم يُقَدِّموا دليلا قاطعا، فهذا موقفه من حيث الأصل صحيح، لأن الأمر في الدعاوى موكول إلى البيّنات، والسكوت عن الحديث في أمر حتى تتضح البيِّنة فيه، من مواضع الصبر ومقاطع الحكمة، لكن لا يُحْمد على ذلك إلا من كان هذا شأنه في كل الأحداث أو غالبها الأعم، أما من ينتقي حدثا ولا يؤيد فيه حُكْما ويصر على المطالبة فيه بالدليل، وقد رأيناه قبل ذلك طيارا في أحداث كثيرة يكتب ويتكلم بكل ما أوتي من قوة في الجزم والإصرار دون أن يسأل عن الدليل في مسائل الدليلُ على خلافها، فهذا الصنف ليس وَرعا ولا عادلا ولا حكيما، بل غارق في لُجّة الهوى والقول بالتشهي.

أضرب مثالا لذلك في حادثة الانقلاب التركي الأخيرة، ظهر الرئيس رجب إردوغان في مكالمة بالصوت والصورة من مخبئه أثناء الانقلاب وقبل أن يعرِف أحد عن تفاصيله شيئا، حتى إردوغان نفسه، ينبغي منطقيا أن يكون لا يعرف، أقول: ظهر إردوغان في تلك اللحظة يتهم فتح الله كولن وجماعته دون دليل بتدبير الانقلاب، ومع ذلك قام الإعلام القطري بصب جام غضبه على فتح الله كولن وجماعته، وقام كثير ممن يطالبون اليوم بالدليل على قطر بفعل الشيء نفسه، ومنهم من وصل به الجور لاتهام كولن بتهم خارجة عن سياق الحدث لا لشيء إلا ليثبت تهمة تدبير الانقلاب، كقولهم إنه يفتي بإباحة الزنى والخمر، وإنه من الحلوليين الاتحاديين، وهي أمور لا علاقة لها بالحدث، ومع ذلك استحضروها ليثبتوا للرأي العام أن هذا الرجل مجرم.

ومع أن أزمة قطر هي عبارة عن مقاطعة يحق لأي دولة أن تفعلها دون أن تبدي أسبابا نجد هناك إصرارا على المطالبة بالدليل القاطع، أما اتهام جماعة كولن فقد ترتب عليها حتى الآن سجن وفصل ما يقرب من المائة ألف رجل وامرأة دون محاكمة من ذلك التاريخ حتى اليوم، وغالبهم لا علاقة له بالجيش من قريب ولا بعيد، ثلاثة آلاف قاض، وستة آلاف أستاذ جامعي، وخمسة وعشرون ألف مدرس، كما ترتب على هذا الاتهام دون دليل مصادرة أموال من شركات وبنايات وبنوك ومؤسسات ثقافية وإعلامية وتربوية تقدر بأربعين مليار دولار، دون محاكمة، وحتى لو تمت المحاكمة فكيف يمكن الثقة بها وقد تم إرهاب القضاة بسجن ثلاثة آلاف منهم صبيحة الانقلاب!

والكل ممن يطالبون بالدليل في أزمة قطر، ومنهم إعلام قطر، يؤيدون كل ذلك دون دليل وينتحلون له المعاذير.

بل المثير أن الرئيس إردوغان نفسه يطالب بالدليل على إدانة قطر مع أن في سجنه ما يقارب ربع عدد مواطني قطر دون دليل حتى اليوم.

فإذا قيل إن الرئيس إردوغان قائد مسلم ثقة ومجرد قوله كاف لتصديقه، فسأقول: حسنا، والملك سلمان والفريق الذي يعمل معه محل الثقة، وإذا قرروا تطبيق قرارات سيادية بتبرير معين فسوف أكتفي بذلك عن الدليل، على فرض عدم ظهور الدليل.

كما أن مقتضى البيعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره، ومقتضى لزوم الجماعة يقتضي الوقوف مع الدولة عرفتَ الدليل أم لم تعرف.

ومع ذلك فالأدلة كثيرة أولها الاعتراف، وهو كما يقول القانونيون سيد الأدلة.

وتبدأ سلسلة الاعترافات بما أورده حمد بن جاسم وحمد بن خليفة في تسجيلاتهما المنتشرة، واضحة الدلالة، على تآمر الرجلين لإسقاط المملكة، ففي التسجيلات إقرار بالتآمر مع دولة أوروبية، وتقديم المشورة لها بكيفية إسقاط المملكة، واعتراف بدعم المعارضين السعوديين ودعم الإعلام المحرض على السعودية، وإنشاء قنوات لهذا الغرض كقناة الجديد، والمجاهرة بخطة لاستقطاب الصف الثاني من القيادات العسكرية السعودية، وتصريح خطير بأن هذه الخطة مدتها اثنا عشر عاما لن يكون بعدها هناك شيء اسمه السعودية، وأن السعودية سوف تقسم بالتأكيد.

كيف يمكن أن أتجاهل هذا الدليل مع أنه لم يصدر تكذيب رسمي له يتضمن إثباتا علميا بأنه ملفق، ولم يصدر أي اعتذار رسمي أو غير رسمي عنه إلا ما يقال إن حمد بن خليفة زار السعودية واعتذر منها شخصيا، وهو اعتذار إن صح يؤكد الدليل ولا ينفيه.

وكان الحَمَدَان يعبران عما أفصحا به في ذلك التسريب على أنه يمثّل استراتيجية لدولة قطر لم يَظْهَر للسعودية تغيرها.

والثاني في سلسلة الاعترافات هو توقيع قطر لوثيقة الرياض 2013 والبنود التكميلية 2014، وهذا التوقيع يمثل اعترافا رسميا من الشيخ تميم بما تتهم به دول المقاطعة حكومته، خاصة أن الاتهامات الأخيرة والتي بُنِيَ عليها قرار المقاطعة مبنية على هذه الوثيقة وبنودها التكميلية. فكيف يقال: لا دليل مع وجود هذين التوقيعين اللذين يمثلان اعترافا مكتمل الأركان.

أما الثالث في سلسلة الاعترافات فجاء مؤخرا على لسان وزير الخارجية القطري بأن كل الدول التي تتهم دولته بدعم الإرهاب متورطة أيضا بالشيء نفسه، وأن دولته تقع في نهاية القائمة.

واتهامه الدول الأخرى ليس دليل إثبات عليها، أما إقراره فدليل إثبات عليه بلا شك. ثم من يستطيع أن ينكر أن قناة الجزيرة كانت منذ إنشائها وحتى الساعة تعمل بجد على صورة الحكومة السعودية في العالم أجمع، وتشويهها أمام شعبها للوصول إلى ما صرح به حمد بن خليفة في التسجيل الشهير ثورة السعوديين على دولتهم، حتى وصل الأمر إلى إنتاج أفلام خاصة بالإساءة للسعودية.

ومن يخفى عليه أن هذه القناة ظلت داعمة لشغب شيعة البحرين المدعوم من إيران وداعمة للحوثيين أثناء الحرب السادسة، وهي من روج لما كانت تسميه دولة العراق الإسلامية، وكانت تعرض باستمرار خطابات المجهول أبي عمر البغدادي، وقبله كانت منصة لأسامة بن لادن والظواهري.

ويعلم المتابعون للثورة السورية أن القناة كانت داعمة لجبهة النصرة، وأنها تسهم في سرقة انتصارات جميع فصائل الجيش الحر وتنسبها إلى جبهة النصرة، وقد اشتكت جميع الفصائل من ذلك، كما أنها كانت وما زالت تغطي على العدوان الذي توقعه داعش والفصائل المنبثقة عن النصرة على المجاهدين من جيش الإسلام وأحرار الشام وباقي فصائل الجيش الحر. كل ذلك أليس دعما للإرهاب؟! أليس كل ذلك مما أخّر نهاية الكارثة السورية. الجواب: بلى لكنهم لا يسمعون.

ما ذكرته غيض من فيض لا يجهله أكثر المتعاطفين مع الموقف القطري، وحين أكتب عن هذه الأزمة فلا يعني ذلك أنني لا أدعو للصلح، بل أرى المطالبة بالمصالحة من أرجى أعمال البر والخير، لكن الصلح الذي تدوم آثاره هو المبني على معرفة لا مجاملة فيها بالمخطئ والمصيب وما ينبغي أن يقدمه كل منهما من تنازلات.

أما من يصر على تسمية البريء جانيا والجاني بريئا فقد جعل بينه وبين الإصلاح أمدا بعيدا.