السلطة » خلافات سياسية

قطر والملف المذهبي السعودي.. الانعزال الإيجابي

في 2018/03/08

مهنا الحبيل- الوطن القطرية-

في النصف الأول من عام 2016، وفي زيارة سريعة للدوحة؛ قدّم ولي العهد السعودي الحالي الأمير محمد بن سلمان طلباً لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وقد كان ابن سلمان حينها وليا لولي العهد، أي أن الأمير محمد بن نايف كان حينها ولياً للعهد بالسعودية قبل عزله، وكان واضحا أن هذا الملف يشغل بال الأمير الشاب المتحفّز، فاقتضى أن يجعله طلباً رسمياً يقدمه مباشرة إلى الشيخ تميم.

طلب الأمير محمد من الشيخ تميم ألا تستضيف قطر أياً من "مشايخنا" (أي علماء الدعوة السعودية) في أي نشاط أو أي محاضرة أو فعالية. كان من الواضح أن هناك تعبئة في هذا الاتجاه، فأوضح الشيخ تميم -في ذات اللقاء- أن هذا البعد في علاقة التدين القَطري السعودي هو ضمن السياق الطبيعي، لما يمثله علماء السعودية من مكانة في ضمير أهل قطر.

ونشير هنا إلى حالة السلفية الاجتماعية في قطر التي يتعبد الناس ربهم بها، فلم تكن حالة صدامية أو صراعية، وإن وُجد بعض التوترات والتطرف، إلّا أن الدولة في قطر -وخاصة بعد مشروع 1995- احتوت حاجات الناس في هذا الاتجاه والاتجاهات الأخرى، حيث يشكل الضمير الروحي الإسلامي والمدرسة السُّنية الكبرى أساساً لصناعة أخلاق الفرد وانتمائه الديني.

وذلك بغض النظر عن الإشكاليات المذهبية السلفية الدينية والسياسية، التي توترت إعلامياً وصعدت آثارها السلبية، سواءً في نزعات تشدد ذاتية أو في حملات توظيف سياسي أو إعلامي، صعدت على السطح في الوطن العربي فيما بعد.

وقد استثمرها المشروع الغربي في تفتيت بنية المجتمع، ثم محاسبة المجتمعات المسلمة على تطرف ساهمت في تفجيره الآلة الغربية والاستبداد، وإن كانت مسؤولية مراجعة الخطاب الإسلامي، وإعادته إلى منهج الاعتدال الفقهي والفكري المقاصدي؛ مسؤوليةً إسلامية ذاتية.

في قطر كان الإرث القديم يتداول هذه السلفية الاجتماعية بعفوية وروحانية مسالمة، وضمن سياق التدين العام، وأيضاً ظلت هناك اتجاهات فقهية وفكرية في الشارع الوطني الاجتماعي والفكري القطري.

لكن الحضور السعودي المذهبي -المتداخل مع المؤسسة السياسية السعودية- كانت له خصوصية بحكم العلاقة التاريخية بين الدولتين، إلّا أن رسالة الأمير محمد بن سلمان كانت تؤكد أن الأمر أخذ لديهم بُعداً حادّا، وبالطبع بعد مرحلة حضور إعلامية مختلفة للمنصات القطرية.

ومع توضيح الشيخ تميم هذه النقطة، ووجود مشترك شبابي بينه وبين ولي العهد السعودي؛ إلّا أن الشيخ تميم أدرك ما يمكن أن يكون وراء هذا الأمر من رغبة أطراف أخرى في تصعيده، فبادر فوراً بقبول هذا الطلب، وأبلغ الأمير محمد بذلك في نفس الجلسة، وصدرت بالفعل تعليمات أميرية في هذا الاتجاه.

فألغِيت عقود ومحاضرات ومواسم دعوية، وتم إحلال الشباب وطلبة العلم من أهل قطر في هذه البرامج، وربما كان ذلك من صالح الدوحة. وسنعود لتوضيح ماذا يعني هذا الأمر الذي تحتاجه قطر في بنيتها الإسلامية الذاتية، من شبابها واتجاهاتها بما فيها حركة طلبة العلم السلفية.

وكان من الواضح أن مبادرة الشيخ تميم تعني أن الدوحة تتفهم وتتفاعل، رغم الاستغراب لأي رغبة سعودية بتفكيك هذا التداخل، الذي يخص الجانب السعوي وبناءه الداخلي، ما دام يُفسّر بصورة سلبية. وهذا يعني أن الأمير محمد بن سلمان كانت لديه فرصة تاريخية لأن يعرض بشفافية أي أمور تطرأ لاحقاً أو موجودة سابقاً، وبالتالي تناقش بروح تجاوب كبيرة في الدوحة.

ولكن ما جرى عكس ذلك ولحسابات أخرى أيضاً، إذ تم اختيار أصعب الطرق وأكثرها تكلفة للسعودية وللمنطقة، وها هي اليوم تعود إلى حصيلة الجرد، بعد عجز قرار الأزمة عن تحقيق أي تصعيد إضافي على قطر، وبعد خسائر مُرّة لكل الخليج العربي وأمنه القومي.

كان من الواضح أن أبو ظبي -وهذا وصف دقيق لا مبالغة فيه- تمكنت من تعبئة الموقف، ونقله إلى شخصية الأمير محمد بن سلمان للدفع بكل قوة إلى حالة الصدام الاجتماعي، فتم جرّ قطر لقضية العلاقة بين المذهبية الدعوية السعودية المرتبطة بالشيخ محمد بن عبد الوهاب ومؤسسات الدولة السعودية، والتي تنتمي إلى حقب تاريخية وانعطافات سياسية لم تكن قطر طرفاً فيها، ولم يكن لها أي حضور فيها.

لقد تم استغلال بعض الأخطاء والتغطيات لهذا الملف من الجزيرة وغيرها، وتمت محاسبة قطر على بُعدٍ اتخذته بعد المصالحة مع السعودية عام 2014 للتقرب من الرياض، من حيث التغطيات الإعلامية الضخمة التي ساندت السعودية، في قانون جاستا وفي الصراع مع المشروع الإيراني.

وبحكم أن مؤسسة الحكم الجديدة التي بموجبها صعد الأمير محمد بن سلمان إلى منصب ولي ولي العهد، وعبر العلاقة مع ولي العهد السابق؛ كان هذا الجهد ضمن صور التقارب مع توجهات الحكم الجديد الذي كان يحتضن الدعوة المذهبية الخاصة وتيارها، فتعاملت قطر مع توجه سياسي رسمي.

كان هذا الأمر خطأً -وهو رأيي الذي أسمعته الإخوةَ في قطر- وإن كان يرضي السعودية في حينها، فالتقارب الشديد والاقتران مع الحالة المذهبية السعودية لن يُقدّر -بحسب النوايا المخلصة في قطر- كعلاقة إسناد، وإنما سيفسر بصورة سلبية، وهو ما نجح فيه مشروع الشيخ محمد بن زايد، وأدركت الدوحة ذلك فيما بعد.

رغم أن أبو ظبي تعاملت أيضاً مع الحالة الأممية (للوهابية) التي نشأت في السعودية، وطَوّرت أحد أجنحتها -وهو تيار الجامية- إلى تنظيمين عسكريين في ليبيا واليمن، وهو مستمر في مناطق أخرى، ولم يعسكر التيار أبداً في تاريخه ويتحول إلى تنظيمات عسكرية إلا في عهدة أبو ظبي.

أما القضية الثانية المهمة، فهي أن اقتران التيار المذهبي الذي انتسب للشيخ محمد بن عبد الوهاب -كتيار حديث وأبرز أجنحة الصحوة السعودية- هو قديم ومتداخل مع التاريخ السياسي السعودي، ولم يرتبط بقطر مطلقاً في تأسيسه ولا في انعطافاته.

وهذا التداخل تم في الفترة الأخيرة كما شرحناه، ولذلك فهو أزمة داخلية تحلها المملكة باحتواء هذا التيار ضمن خطاب تصحيحي حقيقي وإصلاحي سياسي، وليس بسحق المشايخ أو طلاب العلم واعتقالهم.

وما يعنينا -في هذا المقال- هو التذكير بهذه الخريطة، فالهجوم الشرس الذي تعرضت له قطر في الأزمة من تيارات هذه المدرسة واستخدام البعد المذهبي، كان تعبئة متطرفة للغاية؛ فما دخل أسرة آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب والبعد المذهبي لها في نسبة الناس إلى أقوامهم؟

ومن ذلك انتساب أسرة آل ثاني الحاكمة في قطر إلى قبيلة تميم، وهو أمر معروف ولم يكن ينتظر شهادة آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فلا علاقة لزج البعد الديني لهذه الأسرة في هذا الأمر، وإن كانت أسرة آل الشيخ أيضا تميمية النسب.

هذه القضية تشير إلى حجم التوتر والتصعيد غير المنطقي واستخدام الأداة المذهبية، والتي أيضاً شملت المؤسسة الدينية الرسمية للبعد المذهبي للدولة، وشملت كبار الوعاظ الذين كانت لهم عقود تعاونية مع قطر، إضافة للتنظيرات المركزية التي قُدمت باسم "الأممية الوهابية" عن طريق د. محمد السعيدي، وتلقاها الجمهور للتشريع المذهبي لما تعرضت له قطر.

كل ذلك يشير إلى أن هذا التداخل أضر بقطر كثيراً واستغل استغلالا سيئا، رغم أن علاقة هذا التيار بدأت عام 1969 بقرار اتخذته مجموعة من الشباب في القصيم، لإعادة تثبيت انتمائهم الفكري بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونبذ فكر الإخوان لكونه ينتمي إلى العالم السني الضال.

وقد احتضنت الدولة هذا التيار بقوة، ثم طرأ خلاف ما بعد أزمة الخليج الأولى 1990، التي غضب بسببها الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية الراحل، لكون هذا التيار -الذي توسع بين الشباب- هو من صُلب عصبية الدولة الخاصة، وعلى إثرها أُطلق التيار الجامي لتأديبهم وملاحقة من قدموا مذكرات النصائح.

ثم حصلت مصالحة وتجديد للتحالف بعد 1995، في تعزيز المشروع المذهبي والاتحاد في رَفض دعوات الإصلاح الدستوري، التي بدأت تتبلور ذلك الوقت وتتطور، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في أميركا.

وكانت هذه العلاقة قد تطورت من جديد في التسعينيات عبر مشروع د. عبد الله التركي -في ذروة العلاقات الحيوية مع واشنطن- الذي قُدم للأمير نايف، حيث أطلِقت حملة عالمية لتتبع أي فكر إسلامي أو مذهبي سني، خارج سياق مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

وتم الضغط على المراكز الإسلامية في أوروبا وخارجها لاستبدال المادة الدعوية وتبني ما يعتمده المشروع السعودي بشأنها، وكان أوج هذا التحالف حين شكّل موقفا حدياً من توجهات الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في التحديث المدني للدولة منذ عام 2002.

كل هذه المنعطفات لم يكن لقطر -منذ عقود- علاقة بها قبل العهد الأخير الذي شرحنا سياقه، ونحن هنا لم نستكمل هذا الملف الداخلي للمملكة، فهو يحتاج إلى كتاب كامل، وسيظل وضعه حاضراً في الشأن السعودي، حتى بعد أن تُعزز قطر عزلتها الإيجابية.

إننا هنا -وقد قدمنا هذه الخلاصة- ننتهي إلى حاجة قطر الضرورية لأن تنتقل إلى الانعزال الإيجابي، الذي ستزيد الحاجة إليه بعد فك الاشتباك المتوقع في الصيف القادم أو بعده، مهما استمرت لغة التصعيد.

ورغم ألم الأزمة؛ فقد أتيح لقطر أن تعيد دراسة وضعها وخطابها الفكري وبنية أجيالها، في استقلال أكبر لا يقصد منه إقليمية أو عنصرية، ولا صراع مع الدولة السعودية مستقبلا، وإنما ضبط الخطاب الثقافي الإسلامي، والاعتماد على مدارس الداخل المتصلة بصورة طبيعية باتجاهات الفكر الإسلامي، فالفكر الإسلامي له أصلٌ واحد، ولا يمكن لمجتمع أن يتطور وقد انكفأ عن اتجاهات الفكر الحديث وشخصياته، الإسلامي وغيره.

لكن اختيار مسارات الفقه والفكر المعتدلة، وتنمية العقل والرأي -التي تُرصّف طريق العمران في نظرية ابن خلدون- للمشاركة في التقدم البشري عبر الفكر الإسلامي وتوازناته؛ هو ما يتطابق مع رسالة مشروع النهضة القطري الجديد.

فهذا الانعزال عن الشأن السعودي وخطابه الديني الداخلي -الذي قام على بنية مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب- لا يعني قطع الناس عن فقههم وتعبدهم الروحي في المشتركات، كما هي المدرسة الحنبلية.

وفي قطر توجد -في مسالك الوعظ والتربية الفقهية- شخصيات علمية عديدة اليوم، في المدرسة الحنبلية ومسلك الإمام ابن تيمية، وفي المدرستين الشافعية والمالكية، كمدارس وليس كمجتمعات بشرية انعزالية، وهو ما يحقق حاجة أبناء قطر للبناء الديني والروحي.

كما أن قطر اليوم تضم -في شخصياتها وشبابها- من يتبنى مدرسة التنوير الفكري الإسلامي ليمثل تكاملاً طبيعياً، مع الحاجة لكل فئة لتربية الناس على قبول الخلاف وسعة الرأي، وتعزيز رسالة السلوك والأخلاق التي عُرف بها أهل قطر.

إن هذا الانعزال -الذي يأتي في وقت صعب وحسّاس من تاريخ الدولة السعودية- لا يعني ألا يتواصل الناس فكريا، ولا ألا يتأثروا بمنتجات خطاب الروح والفكر التجديدي؛ فمن مثل سلمان العودة اليوم؟

 وكيف نقول للناس لا تأخذوا من علمه وروح فكره ولا تستضيفوه، وهناك غيره أيضاً. فليس المقصود هذا، وإنما إبعاد قطر عن حالة الاشتباك المذهبي الداخلي بين المؤسسة السياسية والتيار المذهبي الذي قامت عليه الدولة السعودية، مع تمني كل الخير لهم وأن يصلح الله أحوالهم.

إنها لحظة تاريخية للدولة القَطرية -فبناء الإنسان هو أهم أسس التقدم الحضاري، ورسالة الإسلام لعمران الأرض- بعد تجربة ناجحة وصعبة في التلاحم الوطني.

فإذا منّ الله على البلد باستقرار اجتماعي وسياسي بمشاركة شعبية، أُكِّدت قبل أيام رسميا بتحضيرات انتخابات 2019؛ فنحن نأمل أن تقدم قطر نموذجا جديداً للشرق المسلم، يُعزّز تجارب النهضة المدنية بالروح الإسلامية والفكرة الأخلاقية.