السلطة » خلافات سياسية

الملحمة القطرية في مواجهة الحصار.. كيف تحولت المحنة لمنحة؟

في 2018/06/01

الخليج الجديد-

إذا كان بلدك مهددا من منافس قوي ذي طموحات توسعية، ثم تحول إلى جزيرة سياسية بفعل حصار تجاري، وبات مجاله الجوي مقيدا وتم إغلاق الحدود في وجهه، في مثل تلك الأحوال لا يتوقع أحد أن يزدهر اقتصاده. لكن بلدا واحدا، في حقيقة الأمر، خالف ذلك التوقع.

فمع اقتراب ذكرى مرور عام على الحصار الذي تقوده السعودية على قطر، تشير تقارير المنظمات الدولية إلى أن الدوحة لم تواصل فقط تحقيق طموحاتها الاقتصادية الهائلة، بل حسّنت سجلها في مجال حقوق الإنسان ومكانتها الجيوسياسية.

مع بدء مصر والسعودية والبحرين والإمارات الحصار البري والجوي والبحري على قطر في 5 يونيو/حزيران 2017، كان الهدف كسر شوكة الاقتصاد القطري وإجبار أمير البلاد على الاستسلام لمجموعة من المطالب؛ من أبرزها إغلاق قناة «الجزيرة»، وقطع العلاقات مع إيران.

لكن الإمارة الصغيرة -التي يبلغ عدد سكانها حوالي مليوني نسمة- رفضت بقيادة الشيخ «تميم بن حمد» (37 عاما)، الامتثال لأي من المطالب، وظلت صامدة في وجه ضغوط ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان» (32 عاما)، وحملته الرامية للهيمنة الإقليمية.

في بداية الأزمة -التي وصفها كثيرون بأنها الشرخ الأسوأ في العالم العربي منذ حرب الخليج- حدثت هستيريا في قطر؛ حيث تدفق القطريون على المتاجر خوفا من حدوث نقص في المواد الغذائية، وانهار سوق الأوراق المالية، حتى أن المئات من الجمال نفقت بعد أن أغلق السعوديون الحدود.

ومع استمرار الأزمة، تزايدت المخاوف من عمل عسكري، تقوده السعودية، ضد قطر، رغم أن هذا الأمر كان يبدو غير محتمل في ظل احتضان الدوحة لأكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط (قاعدة العديد).

طلبت الدوحة الدعم من تركيا، التي أرسلت بدورها دفعات من القوات.

كما أرسلت أنقرة وطهران مواد غذائية وإمدادات إلى الدوحة.

في الأشهر التالية، كانت هناك شكاوى متكررة من اعتراضات جوية متبادلة بين الطائرات القطرية والإماراتية، وتقارير عن الشيخ المفقود (عبدالله بن علي آل ثاني)، وحتى خطة سعودية لتحويل قطر إلى جزيرة عبر شق قناة بحرية على حدودها مع السعودية، وتحويل المنطقة الحدودية إلى منطقة عسكرية وموقع النفايات النووية.

طرق تجارة جديدة

في الأسابيع الأولى بعد إعلان الحصار، انخفضت واردات قطر بنحو 40 في المائة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.

واليوم عادت هذه الأرقام إلى طبيعتها؛ بفضل قيام قطر -أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم- بتطوير طرق تجارية جديدة، ودعم بنوكها بأموال حكومية، ومساعدة الشركات المحلية على تطوير الإنتاج المحلي لبعض السلع، بما في ذلك الغذاء.

كما بدأت قطر في تطوير «حقل غاز الشمال»؛ أكبر حقل للغاز الطبيعي المسال في العالم الذي تشاركه مع إيران في الخليج العربي.

وقال صندوق النقد الدولي، في تقرير أصدره في مارس/آذار الماضي، إن النظام المصرفي القطري تعافى من نزوح الأموال الذي حدث في بداية القطيعة الدبلوماسية، وإن اقتصاد البلاد من المتوقع أن ينمو 2.6 بالمئة هذا العام.

وأشار الصندوق إلى أن العجز المالي لقطر من المتوقع أن يكون قد انخفض إلى نحو 6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2017 مقارنة مع 9.2 بالمئة في 2016.

بينما ذكر بنك «HSBC»، في تقرير إلى العملاء الإثنين الماضي، أن بيانات «فوربس» أفادت بارتفاع احتياطي الدوحة من النقد الأجنبي بمقدار 2.9 مليار دولار إلى 17.7 مليار دولار، مضيفا أن الموقف الاقتصادي القوى للدوحة دعمه جزئيا التحسن المستمر في الميزان التجاري.

تعزيز حقوق الإنسان

لطالما كانت قطر مركزا للانتقادات من منظمات حقوقية دولية؛ بسبب نظام الكفيل  -السياسة التي تنظم عملية استقدام العمالة الأجنبية- الذي وصف بأنه شكل من أشكال العبودية المعاصرة.

ولطالما ناشد ناشطون حقوقيون بمقاطعة مونديال قطر 2022؛ بسبب ما قالوا إنها ظروف عمل سيئة تطال الأجانب المشاركين في بناء البنية التحتية لهذا الحدث العالمي.

كما أن بعض القطريين كانوا يشتكون من حكم ملكي مطلق وحريات مدنية محدودة، لكن من المقرر الآن أن يصوت كل من الرجال والنساء في أول انتخابات برلمانية حرة عام 2019.

وأشادت منظمة «هيومن رايتس ووتش» بقطر في تقريرها العالمي لعام 2018 بعنوان « قطر: الأزمة حفّزت إصلاحات حقوقية».

وقال التقرير إن قطر أعلنت عن مجموعة إصلاحات حقوقية هامة خلال 2017، وإن نُفذت هذه الإصلاحات، ستكون بمثابة أكثر المعايير الحقوقية تقدما في منطقة الخليج.

وتشمل الإصلاحات تشريعات من شأنها أن تُحسّن بشكل كبير معايير عمل العمال الوافدين، بما في ذلك قانون خاص بعاملات المنازل، ومشروع قانون صادقت عليه الحكومة يرمي إلى منح الإقامة الدائمة للأطفال المولودين لأمهات قطريات من آباء أجانب، وأيضا لبعض المقيمين الأجانب في البلاد.

سعادة الغرب بمبيعات السلاح

تعد قطر واحدة من أكثر الدول استثمارًا في العالم.

إذ يمتلك هذا البلد الصغير تأثيرًا كبيرًا على السياسة العالمية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنه استثمر مئات المليارات من الدولارات التي عادت عليه من ثروته من الطاقة، عبر «جهاز قطر للاستثمار» -صندوقه السيادي- في الشركات والممتلكات في الخارج.

وفي ظل رغبة قطر مواصلة هذه السياسة، مضت قدما في تشريع سيسمح بالملكية الأجنبية الكاملة للشركات العاملة في البلاد، وهي خطوة أوسع بكثير من إجراء أكثر محدودية اقترحته مؤخراً السعودية، التي تتنافس مع قطر على الأعمال التجارية الدولية الجديدة.

وتروج وزارة الاقتصاد والتجارة في قطر للقانون في الخارج على أنه سيوفر العديد من الحوافز للمستثمرين الأجانب بما في ذلك «الإعفاء من الرسوم الجمركية وإمكانية الإعفاء من ضريبة الدخل».

ويأتي هذا التشريع بعد توجيه من الأمير العام الماضي بانفتاح أكبر لاقتصاد بلاده.

كما يشمل كفاح قطر ضد الحصار صفقات أسلحة ضخمة.

ولضمان استقرارها، أنفقت الإمارة ما يقرب من مليار دولار لبناء قاعدة «العديد» الجوية في التسعينات من القرن الماضي؛ حيث يقع مقر القيادة المركزية الأمريكية، كما تعمل القوات الجوية الملكية البريطانية.

وبعد فترة وجيزة من إعلان السعوديين حصارهم، اصطف الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» إلى جانب دول الحصار، ووصف قطر بأنها «ممول للإرهاب على مستوى عال»، وهو موقف فاجأ وزارة الخارجية الأمريكية التي كانت تعمل على «تخفيف حدة التوتر» بين الشركاء الخليجيين.

وفي نفس الأسبوع، وقعت الولايات المتحدة صفقة بقيمة 12 مليار دولار لبيع مقاتلات إلى قطر، بينما وصلت سفينتان حربيتان أمريكيتان إلى قطر لإجراء مناورات عسكرية مشتركة.

وبعد ذلك أشهر، وبالتحديد في ديسمبر/كانون الأول 2017، أعلنت قطر أنها ستشتري طائرات مقاتلة ومركبات مدرعة من فرنسا كجزء من صفقة بقيمة 12 مليار يورو.

كما شاركت قطر في حملة علاقات عامة استمرت لمدة عام في العاصمة واشنطن، لتحسين صورتها؛ بما في ذلك مغازلة زعماء يهود أمريكيين بارزين.

حتى أن الإمارة ذهبت إلى حد الدخول في محادثات لشراء «Newsmax»، وهي وكالة أنباء مملوكة لصديق مقرب من «ترامب».

ومع سعي السعودية وقطر للتأثير في واشنطن والمنطقة، وتبادل الاتهامات بـ«دعم الإرهاب» على مدى سنوات، يبدو أن تلك الاتهامات المتبادلة تلغي كل منهما الآخر، وتنهار على جانب الطريق.

ومع دخول الأزمة القطرية عامها الثاني، لا يوجد ما يشير إلى أنها ستحل في أي وقت قريب، لكنها كانت مفيدة للاقتصاد القطري والحريات المدنية لأولئك المقيمين في الإمارة الغنية بالنفط.