محمد صالح المسفر- الشرق القطرية-
أتابع بقلق ما تكتبه الصحافة العربية وما يصل إلى يدي من الصحافة الأجنبية مترجما إلى العربية أو غير المترجم، أتابع قدر استطاعتي ما تتناوله وسائل الاتصال الاجتماعي عن هذه الأزمة غير المبررة والتي وصلت إلى أعلى مراحل الأزمات التي يخلقها بعض العرب لأنفسهم.
في هذه الصحافة البعض منتقد للإجراء الذي اتخذته الدبلوماسية السعودية تجاه كندا والذي يعتبر سابقة في العلاقات السعودية الدولية التي عادة تعالج قضايا أكثر خطورة مما أثارته "تغريدة" وزارة الخارجية الكندية تجاه السياسة السعودية من اعتقال ناشطي الرأي العام والمدافعين عن حقوق الإنسان في السعودية.
والبعض الآخر مؤيد للإجراء السعودي تحت ذريعة "عدم التدخل في الشؤون الداخلية" وهو مبدأ أقرته المواثيق الدولية، وراح الكثير من الكتاب العرب يسهبون القول حول هذا المبدأ تزلفا إلى السعودية، دون التوقف عند مقاصده.
ومن مقاصد هذا المبدأ أنه إذا أرادت دولة تغيير نظام حكمها من جمهوري إلى ملكي أو العكس فإن أي تدخل خارجي في هذا الشأن يعتبر مرفوضا، وإذا قرر شعب تغيير نظام حكمه بطريق مختلف كما حدث في تونس أو مصر عام 2011 وتدخلت دول أو أطراف خارجية للحيلولة دون إرادة المجتمع فذلك مرفوض لأنه تدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدولة.
ومن نماذج التدخل في الشؤون الداخلية للدول محاولة دول الحصار فرض إرادتها على دولة قطر ودعوتها إلى إغلاق محطة إعلامية نافذة (الجزيرة) وطرد بعض قيادات حركة "حماس" السياسيين من الدوحة التي استضافتهم بعد أن ضاقت بهم السبل في كثير من عواصم العالم العربي ولم يجدوا ملاذا إلا قطر، ومحاولة منع الحكومة القطرية من تقديم أي مساعدات إنسانية لسكان قطاع غزة، ذلك كله يعتبر تدخلا في الشؤون الداخلية لدولة قطر، وقس على ذلك.
كندا في هذا السياق أعلنت عن قلقها عبر "تغريدة" من اعتقال أفراد في السعودية تعتبرهم من الناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة وتطالب بالإفراج عنهم.
كندا لم تشذ عن جماعة الدول الأوروبية في هذا الموقف فقد تناولت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهم ذات الشأن ولم تصل العلاقة بين هذه الدول والسعودية إلى ما وصلت إليه اليوم مع كندا.
كتبت "كوندليزا رايس" في صحيفة "نيويورك تايمز" تقول: "إذا كان هناك مشكلة للسعودية مع كندا بخصوص الحريات العامة وحق الانتقاد السلمي، فإن هذا يعني أن السعودية لديها مشكلة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إن أمريكا تنضم إلى كندا في حث السعودية على الإفراج عن المعتقلات".
الدكتور "ريتشار ماكنن" يقول: إن صانع القرار السعودي في هذا الشأن أراد إرضاء الرئيس الأمريكي والانتقام له من رئيس وزراء كندا السيد "ترودو" الذي هو على خلاف مع الرئيس "ترامب"، لهذا جاء موقف الناطق باسم البيت الأبيض من هذه المسألة باهتا، وذهب "ماكنن" إلى القول: "فات السعوديين أن هذا الإحساس غير وارد في الثقافة الغربية".
في الدول المتحضرة تتخذ القرارات المتعلقة بالعلاقات بين الدول عن طريق لجنة مصغرة من الخبراء تدرس الخلاف من جميع جوانبه السلبية والإيجابية وتطرح الحلول لصانع القرار ليختار من بينها ما يحقق مصالح الدولة ولا يضر بالمواطن، وليس قرارا فرديا.
في الأزمة الراهنة السعودية ــ الكندية، أعتقد أن القرار الذي اتخذ هو قرار فردي، جاء كرد فعل لم يأخذ في الاعتبار الأضرار التي قد تلحق بالدولة والمواطن السعودي على حد سواء.
فمثلا في كندا أكثر من خمسة عشر ألف طالب سعودي بعضهم في المراحل النهائية لإتمام دراساتهم إما لدرجة الدكتوراه والماجستير أو في المستوى الجامعي ولا شك أنه سيلحق بهم وبتحصيلهم العلمي أضرار كبيرة، وكذلك المرضى وغير ذلك.
لقد كان بالإمكان معالجة هذا الخلاف السعودي ـ الكندي بهدوء ودون انفعال، لأنه خلاف غير جوهري "تغريدة" وكذلك ما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية والعسكرية.
جريدة الوطن السورية على سبيل المثال نسبت حديثا إلى السفير الصيني في دمشق يوحي بأن هناك قوات صينية تحارب إلى جانب القوات الحكومية السورية، وهذا التصريح أحدث ضجة كبيرة، الأمر الذي أدى بالسفير إلى تكذيب الخبر والقول بسوء الترجمة، وطلب من الصحيفة تصحيح موقفها وعولج الأمر بكل هدوء.
وكان بودي أن تسلك الدبلوماسية السعودية ذلك المسلك بالتعاون مع السفارة الكندية في الرياض دون تصعيد، خاصة في الظروف الراهنة التي تمر بها الدولة السعودية.
هناك تماثل بين السياسة السعودية الراهنة وسياسة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، مع الفارق أن الأولى لا تملك وسائل القوة والإكراه التي تتمتع بها الثانية!
فإدارة "ترامب" لم تترك لها صديقا في العالم، لكن أمريكا قادرة على الحياة بدون صديق خارجي، "ترامب" عادى المجتمع الدولي في شأن اتفاقية المناخ، ومنظمة التجارة العالمية، والاتحاد الأوروبي في قضايا كثيرة ومنها الاتفاق النووي مع إيران ويعادي الاتحاد الروسي والصين وتركيا وإيران والمكسيك وآخرين.
السعوديون يعادون شقيقهم القطري ويحاصرونه ويهددونه بالزوال والمجتمع الدولي يرفض تلك الممارسة ضد قطر.
إنهم يقودون حربا ضروسا في اليمن يدينها المجتمع الدولي بكل دوله والمنظمات الدولية بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمة حقوق الإنسان الدولية وجميع منظمات المجتمع المدني في الدول الديمقراطية.
ويعادون باكستان وماليزيا وتركيا وايران، وعلاقة السعودية بالكويت وعُمان ليست في أحسن حالاتها، ويعادون السويد وألمانيا وأخيرا كندا!
والجبهة الداخلية (السعودية) يسودها القلق وعدم اليقين، فمن بقي لهم من الأقوياء؟ إذا كانوا يراهنون على صداقتهم مع أمريكا فهم يخطئون لأن أمريكا تديرها مؤسسات دستورية وهو نظام متغير ومرتبك في الظروف الراهنة وقد تعصف به العواصف وهي إدارة ابتزاز مالي وسياسي لدول الخليج العربي، فأي رهان على هكذا حليف؟
السعودية تعتمد على استيراد السلاح والذخيرة والتكنولوجيا والغذاء والكساء والدواء وكل ذلك متوفر في الغرب ولا سبيل لغيره، فلماذا الاستعداء والعداء مع هذه الدول؟
آخر القول: ما كنت أتمنى أن تنزلق الدبلوماسية السعودية إلى هذا المنزلق الخطير، علما بأني كنت من أنصار عاصفة الحزم عند إعلانها ولما انحرفت عن أهدافها فلا بد من إعادة النظر.
ولتصحيح المسار فلابد للسعودية من رفع الحصار عن قطر، وإيقاف الحرب في اليمن، واستعادة اللحمة الخليجية على أسس متطورة، واستعادة دورها العربي بعد أفول الدور العراقي والسوري والمصري على أساس عربي صادق يحفظ الحقوق والأوطان من التفكيك واحدا تلو الآخر.