جاكوب شابيرو - جيوبوليتيكال فيوتشرز- ترجمة شادي خليفة -
ألقت عملية القتل الوحشية والمروعة لـ"جمال خاشقجي" الضوء على ما يجري على النحو المعتاد في الشرق الأوسط. وفي الولايات المتحدة، يشتكي الكثيرون من أن حكومتهم تعمل مع بلد قادر على القيام بمثل هذا العمل، وبالتحديد مع زعيمها، ولي العهد "محمد بن سلمان"، المتهم بالتهور والقسوة. وفي المملكة، هناك درجة من الذعر حول سبب إثارة مقتل "خاشقجي" لمثل هذه العاصفة، مع الأخذ بعين الاعتبار سجل الرياض كحليف رئيسي للولايات المتحدة في المنطقة لعقود، وخاصة خلال العامين الماضيين.
والحقيقة البسيطة هي أن استراتيجية واشنطن الحالية في الشرق الأوسط تترك الولايات المتحدة مع قليل من الخيارات، وكلها سيئة. وإلى أن تتغير هذه الاستراتيجية، فإنها ستظل عالقة في هذه العلاقة. وفي ظل تلك الظروف، لا تملك الرياض الكثير من الخيارات هي الأخرى، فهي عالقة بشكل لا يمكن تجنبه مع واشنطن منذ عام 1945. ورغم أن الشراكة بين "فرانكلين دي روزفلت" والملك "ابن سعود" لا تزال هي الأساس لتلك العلاقة، إلا أن هذا الأساس يئن تحت وطأة الضغوط والمتغيرات منذ فترة طويلة قبل سماع العالم عن "جمال خاشقجي".
وكانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" هي التي سعت أولا إلى إبعاد الولايات المتحدة عن حليفها القديم، لكن إدارة الرئيس الحالي "دونالد ترامب" عكست هذا القرار عام 2017. وفي ظل إدارة "ترامب"، تحركت الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط على ثلاثة أهداف، وهي هزيمة التطرف، ومواجهة النفوذ الإيراني عبر المنطقة، وحث حلفائها هناك على القيام بعمل أكبر في الأمرين معا. وعلى النقيض من ذلك، كانت إدارة "أوباما" أكثر اهتماما بتجنيب الولايات المتحدة التورط المباشر في الشرق الأوسط، وإعادة توزيع اهتمام بلاده وأصولها إلى آسيا.
وجعل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014 هذا التحول أكثر إلحاحا لإدارة "أوباما"، التي سعت إلى حماية المصالح الأمريكية عن طريق إنشاء توازن قوى ذاتي التنظيم على حساب حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة. وبهذا المعنى، لا تختلف أهداف إدارة "ترامب" فقط، بل تغيرت التكتيكات أيضا. ومنذ 2017، لم تعد واشنطن تسعى إلى توازن القوى، بقدر ما تسعى إلى بناء تحالف من شأنه تدمير أعداء الولايات المتحدة. وكان أهم لاعب في تلك الاستراتيجية هو السعودية، التي تعاني مؤخرا من الحصار.
قوة إقليمية تحت التهديد
وتكفلت صراعات المملكة بدعاية سيئة أعمق بكثير من تلك التي تلقتها بسبب تداعيات مقتل "خاشقجي". ومنذ مطلع القرن العشرين، تعرض موقعها كقوة إقليمية للتهديد من قوتين صاعدتين، تركيا وإيران. وبالطبع، لم يكن هذا هو الحال دائما. وفي أوائل التسعينات، كان للسعودية ناتج محلي إجمالي أكبر من كلا البلدين، وكان اقتصادها يغذى بشكل شبه حصري بالهيدروكربونات. وكانت إيران في طريقها للخروج من حرب دامية ومدمرة استمرت على مدى 8 أعوام مع العراق، وكان على تركيا أن تتعامل مع أزمة اقتصادية وانقلاب عسكري. وبدا عالم ما بعد الحرب الباردة جيدا من وجهة نظر الرياض.
لكن منذ عام 2000، فقدت المملكة قدرا كبيرا من التفوق. وأصبح الاقتصاد التركي الآن أكبر بنسبة 25% تقريبا من الاقتصاد السعودي، وفي حين أن الاقتصاد الإيراني لا يزال أصغر حجما، إلا أن صناعتها المحلية تسمح لها بإنتاج أسلحة في الداخل، وهو شيء لا تستطيع فعله المملكة، رغم كل أسلحتها المتقدمة. ومن خلال خسارة التفوق الاقتصادي، خسرت المملكة ميزتها الوحيدة في المنافسة الإقليمية. ومن حيث القوات العسكرية والقوة السكانية على حد سواء، تعد المملكة قوة من الدرجة الثانية مقارنة مع تركيا وإيران.
وإضافة إلى ذلك، أصبح المورد الذي أثار انفجار الاقتصاد السعودي في النصف الثاني من القرن العشرين، "كعب أخيل" المملكة؛ حيث تعتمد السعودية بشكل كبير على النفط في اقتصادها، ويأتي 50% من ناتجها المحلي الإجمالي من قطاع النفط والغاز. وأدى انهيار أسعار النفط عام 2014 إلى عجز قدره 100 مليار دولار في الميزانية السعودية. وحتى مع ارتفاع أسعار النفط في الأشهر الأخيرة، لا يزال الاقتصاد السعودي يعاني من عجز يبلغ نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي (حوالي 50 مليار دولار). وكان ما أنقذ المملكة هو احتياطياتها الهائلة من النقد الأجنبي، التي انخفضت من 737 مليار دولار عام 2014، لتصل إلى 506 مليارات دولار في أغسطس/آب الماضي.
ولم يكن هناك أسوأ من توقيت هذا التراجع. فقد كانت الرياض تصب المال في خزائن الحلفاء والمجموعات بالوكالة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وكان الغرض النهائي من ذلك هو إفساد الطموحات الإقليمية التركية والإيرانية. وعندما انخفض سعر النفط، دخل السعوديون في فترة من عدم اليقين الاقتصادي، وفقدوا السلاح الحقيقي الوحيد الذي استعانوا به ضد منافسيهم الإقليميين.
وجلبت أزمة 2014 فكرة أن التغيير ضروري إذا أرادت السعودية البقاء على قيد الحياة. لذا كان يُنظر لولي العهد "محمد بن سلمان" كمنقذ، لكنه تعرض لانتقادات بسبب إصداره المزعوم لأمر قتل "خاشقجي" وسياساته العدائية السابقة. وكانت هناك مجموعة متنوعة من الأفكار حول التغيير الذي قد يحدث، لكنها توقفت جميها بمجرد أن نفذ "بن سلمان" انقلاب القصر غير الدموي، وعزز السلطة وجمعها في يده، واحتل المرتبة التالية للعرش. وفي رؤيته لمستقبل المملكة، وهو برنامج طموح جدا يسمى "رؤية 2030"، فإنه يعد بتحويل الصحراء العربية إلى وادي سيليكون عربي. وفي تنفيذ هذه السياسة، كسر "بن سلمان" تقريبا كل سابقة اقتصادية وسياسية ومؤسسية وضعتها البلاد على الإطلاق.
ولا يوجد مثال أفضل لتوضيح جذرية إصلاحات "بن سلمان" من الدور الذي لعبه مع الدين في توطيد سلطته، أو بشكل أدق، الدور الذي لم يلعبه. وكان النظام السعودي قائما تاريخيا على الزواج بين الولاء القبلي والوهابية، وهو تفسير متشدد ومحافظ للإسلام السني لا يترك مجالا لأي أيديولوجية دينية منافسة أخرى. وتاريخيا، كان أكبر تهديد للنظام الملكي السعودي هو الأقلية الشيعية التي تتراوح نسبتها بين 10% و15%، والتي تعيش في المناطق الشرقية للمملكة؛ حيث يوجد معظم نفطها. لكن في ظل حكم "بن سلمان"، لم تتوان قوات الأمن السعودية عن فعل شيء لمنع الشيعة من السيطرة. كما تم اعتقال ومحاكمة رجال دين سُنة مرتبطين بحركة الصحوة. وتحمل تلك الحركة تشابها أيديولوجيا وعقائديا مع جماعة الإخوان المسلمين، التي أصبحت محظورة في المملكة منذ عقود؛ لأنها تدعو لعلاقة مختلفة بين المسجد والدولة بعيدا عن الوهابية، وبالتالي تشكل تهديدا مباشرا للعائلة الحاكمة والمؤسسة الدينية، التي تعتمد عليها شرعيتها.
ويفسر هذا جزئيا لماذا ينظر مسؤولو الاستخبارات السعودية إلى "خاشقجي" على أنه خطر. ففي مقال نُشر في أبريل/نيسان 2018 في صحيفة "نيويوركر"، قال "خاشقجي": "معظم رجال الدين الذين اعتقلهم بن سلمان ليسوا رجال دين متشددين، بل مصلحين". وبالفعل، فإن معظم الغربيين يتفقون مع "خاشقجي" على أنهم "ليسوا متشددين". ويلتزم المعتقلون بشكل أوثق بما يمارسه الإخوان المسلمون مما يمارسه رجال الدين الوهابيين. وبعبارة أخرى، كانت علاقات "خاشقجي"، وتعاطفه مع هذا الشكل من الإسلام السياسي، يشكل تهديدا مباشرا لشرعية النظام الملكي السعودي، الذي يعتقد أنه لا يمكن أن يتسامح قيد أنملة مع جماعات مثل جماعة الإخوان المسلمين. وبعد كل شيء، فإن ما يقرب من 70% من سكان المملكة هم أقل من 30 عاما، مع قليل من الآفاق الوظيفية، وليس لديهم هوية وطنية ذات مغزى. ويعني ذلك أنه ليس هناك مجال تجنيد أفضل في العالم للإخوان المسلمين، أو بشكل أكثر جذرية، للجهاديين، من الشباب السعودي.
خيارات سيئة
ولا تتعلق إصلاحات "بن سلمان" الطموحة، التي تتضمن السماح للنساء بالقيادة، وعرض الأفلام، وما إلى ذلك، فقط بالتهديدات السعودية الداخلية، بل تعد حملة "بن سلمان" استسلاما لمطالب الولايات المتحدة. ولا يخفى على أحد أن السعودية تمول وتصدر الجهاديين. وكانت عدم رغبة الرياض في التوقف عن ذلك أحد الأسباب التي جعلت إدارة "أوباما" تعتقد أن السعودية لم تعد حليفا موثوقا به. ومن هنا، خرج الاتفاق النووي الإيراني الذي أضعف موقف المملكة بشكل خطير؛ لأنه بدون دعم الولايات المتحدة، فإن السعودية ستكون في أفضل الأحوال لاعبا ثانويا، وفي أسوأ الأحوال في انتظار ثورة.
وعندما تولت إدارة "ترامب" السلطة، أصرت السعودية على اتخاذ إجراءات صارمة ضد الإسلاميين، وكانت المملكة على استعداد للذهاب إلى أبعاد جديدة من الإجراءات الصارمة، خشية أن تفقد أهم راعٍ أمني لها مرة أخرى. وخوفا من تمرد محتمل، وإدراكا لمخاطر فقدان الولايات المتحدة، احتاجت المملكة إلى تغيير. وبهذا المعنى، كان "بن سلمان" رجل واشنطن المفضل. وكما قال "فرانكلين روزفلت" منذ ما يقرب من قرن مضى، عندما كان عليه أن يبرر دعمه لحاكم ديكتاتور: "قد يكون ابن عاهرة، ولكنه ابن العاهرة خاصتنا".
وهذا هو السبب في أن رد الولايات المتحدة على جريمة "خاشقجي" كان خافتا إلى حد كبير، وكذلك على الحرب التي قادتها السعودية في اليمن، حيث قتل ما لا يقل عن 50 ألف شخص، وحيث تقدر الأمم المتحدة أن 75% من السكان بحاجة إلى مساعدات إنسانية فورية. وطالما بقيت الأهداف الأساسية للولايات المتحدة هي تدمير الجهاديين وإيران، فليس أمام واشنطن من خيار سوى أن تتحمل تبعات تحالفها مع المملكة. وبهذا المعنى المحدود، تحتاج الولايات المتحدة إلى المملكة مثلما تحتاج المملكة إلى الولايات المتحدة. وبالتالي، قد تتضح أسباب إرسال وزير الخارجية الأمريكي إلى الرياض على الفور بعد الكشف عن قضية "خاشقجي"، والوجود غير الرسمي لوزير خزانة الولايات المتحدة في المملكة هذا الأسبوع في مؤتمر "دافوس "الصحراء" الخاص بالاستثمار.
ومع ذلك، في تركيزهما الوحيد على مواجهة النفوذ الإيراني والقضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية"، قللت الولايات المتحدة والسعودية من القوة الصاعدة الأخرى التي تسعى إلى الحصول على عباءة زعامة العالم الإسلامي السني، ألا وهي تركيا.
وليس من قبيل الصدفة أن تقوم تركيا بصنع صفقة ضخمة من مقتل "خاشقجي". ولأعوام، كانت تركيا تقوم ببطء، وبطريقة منهجية، ببناء النفوذ السياسي والعسكري في المناطق التي تعتبرها السعودية مجال نفوذها. فقد تمكنت قطر، على سبيل المثال، من النجاة من محاولات الرياض لمعاقبتها العام الماضي، وذلك إلى حد كبير بفضل مساعدة تركيا. علاوة على ذلك، وقعت الحكومة في أنقرة مؤخرا اتفاقيات تعاون عسكري مع الكويت وعُمان، التي حاولت دائما أن تلعب على كلا جانبي التنافس السعودي الإيراني، لكنها تبدو أكثر انفتاحا على التقارب التركي مما كانت عليه في الماضي.
ولعل الأبرز من ذلك أن الإعلان الأخير عن إلغاء الأردن لبندين في معاهدة السلام مع (إسرائيل) يأتي في أعقاب تكهنات حول تقارب أردني تركي. ويُقال إن الأردن غير راضي عن موقف السعودية تجاه الفلسطينيين. ويوم الإثنين، قام مركز الدراسات الاستراتيجية الإسلامية الملكي، ومقره الأردن، بتسمية الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" أكثر المسلمين تأثيرا في العالم. ولا تعد تركيا دولة صديقة للصحفيين. ولكنها استطاعت عبر التعاطف مع "خاشقجي" وقضيته في كسب فرصة استراتيجية لتغيير تلك الصورة.
العواقب غير المقصودة
وربما لا تكون الحكومة السعودية في خطر مباشر. فقد نجح الملك "سلمان بن بعدالعزيز" وابنه في السيطرة على مراكز القوة الرئيسية في المملكة. وتعد التكهنات بأنه ستتم الإطاحة بـ"بن سلمان" على خلفية مقتل "خاشقجي" في غير محلها؛ حيث أمر الملك "سلمان" بإعادة تنظيم أجهزة المخابرات السعودية، ووضع الملف مباشرة تحت إدارة "بن سلمان". وقد تكون هناك أزمة خلافة، لكنها لن تبرز إلا عندما يموت الملك "سلمان"، الذي يقترب من الـ88 من عمره.
وعزز "بن سلمان" نفسه كوريث للعرش، لكنه تجاوز الكثيرين في خط الخلافة، وليس هناك ما يضمن عدم محاولة شخص آخر القيام بالمثل. لكن أزمة الخلافة بعيدة كل البعد عن الإطاحة بالملك الحالي، الذي لا يزال يتمتع بالولاء على نطاق واسع. وبينما هو موجود، لا توجد قوة مؤسسية داخل المملكة قادرة على تغيير النظام، دون تدخل أجنبي أو ثورة صريحة. وهذا هو السبب في أن الملك "سلمان" و"محمد بن سلمان" لا يألوان جهدا ولا يتورعان عن سحق المعارضين أمثال "خاشقجي"، أو أي من المسؤولين السعوديين العديدين الذين شملتهم حملات التطهير في الأعوام الأخيرة.
وعلى كل حال، ستحاول المملكة تحقيق المستحيل، متمثلا في إعادة توجيه كاملة لاقتصادها خلال 12 عاما. وستفشل على الأرجح. وطالما استمر تدفق النفط السعودي، يمكن للمملكة شراء حلفاء مثل مصر وباكستان. وطالما بقيت الولايات المتحدة ملتزمة بمواجهة إيران، يمكن للسعوديين أن يتأكدوا من أن واشنطن ستتجاهل انتهاكاتهم لحقوق الإنسان. وتعد تركيا الآن في وضع أفضل من أي بلد آخر للاستفادة من الاحتكاك الناتج عن هذا الترتيب، وهي تتحرك بالفعل للاستفادة من هذه الفرصة. ويمكنها ببساطة أن تلعب دور القوة الرشيدة والقائد الروحي بشكل واقعي، كسلطنة وخلافة تولد من جديد في القرن الحادي والعشرين على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.