(مبارك الفقيه \ راصد الخليج)
تدخل المملكة العربيّة السعوديّة إلى نادي "دول البريكس" من بابها الأوسع، مطلع العام الجديد، ومعها دول كانت إلى الأمس القريب في معسكر الخصومة، مثل روسيا وإيران، ودول ما تزال حتى اليوم في معسكر الصداقة الملتبسة، مثل الإمارات ومصر.. تدخل هذه الدّول في حلف ديمغرافي اقتصادي جديد يرسم آفاقًا كبيرة لطموحاته على المسرح الدّولي متسلّحًا بناتج قومي يقارب نصف الناتج العالمي، وسوق استهلاكّية تكاد تبتلع أسواق الكرة الأرضيّة كلّها؛ فيما لو قدّر لها أن تسقط بلاد العم سام عن موقع التسيّد الدّولي.
خطوة جريئة في دائرة استهدافات واسعة، لا تنفصل عن الإرهاصات الكونيّة التي تؤذن بنشوء عالم جديد، لن تعود فيه الولايات المتّحدة الأمريكيّة في موقع المتحكّم بمصائر الأمم وأنظمة الحكم والشّعوب. فحرب الوكالة الأوكرانيّة ضد روسيا ممعنة باستنزاف المقدّرات العسكريّة والماليّة للإمبراطورية الغربيّة التي تشكلّت بعد الحرب العالميّة الثانية، ولعبة التحكّم بأسعار النفط وموارد الطاقة لم تعد مقتصرة على الريموت كونترول الأمريكي، فيما الدّول التي تشكّل التجمّع الجديد تختزن طاقات بشريّة وإنتاجيّة هائلة؛ مثل الصين والهند وروسيا والسعوديّة وإيران، من دون أن نغفل ما للبرازيل والأرجنتين ومصر وجنوب أفريقيا من دور في استنهاض الحركة التجاريّة والاستهلاكيّة على اتّساع المدار القارّي في العالم..
أما دولة الإمارات العربيّة المتّحدة الدائبة على إبراز حضورها سوقًا ماليّة ونقطة استقطاب للصفقات الاستثماريّة، فلا بدّ من تشخيص دورها المنتج في هذا الحلف. فهي تحرص على التموضع بالقرب من الشاطئ، فلا تستغرق في الإبحار بعيدًا، وتبقي نفسها دائمًا في وضع الجهوزيّة للرسو في الميناء.
إذ لا يشكّل انضمام "أبو ظبي" أي مشكلة سياسيّة أو اقتصاديّة بالنسبة إلى الرياض، ولا تسبّب لها أي شعور بالتنافس السّلبي. فالسعوديّة تمارس دورها كأخ أكبر في منظومة الدّول الخليجيّة الغنيّة بالثروات النفطيّة. ولكن الكلام قد يختلف، في المقلب الإماراتي، حيث جموح حكّام الإمارة يتطلّع إلى تأدية دور على السّاحة العالميّة يتجاوز مساحتها الجغرافيّة، لتحاول فرض نفسها – كما الجزيرة القطريّة – طرفًا ذي ثقل في رسم السّياسات الدّوليّة. ويعتقد هؤلاء أنّ الانضمام إلى "البريكس" قد يوفّر لهم موقعًا، يمارسون فيها بعدًا آخر من أبعاد التمدّد، ويسمح لهم في مدّ ذراع نفوذ جديد يبقيهم على الجانب الآمن الذي يقيهم من أي تداعيات أو تصدّعات تنتج عن اختلاف معادلة القوى، ربطًا بتطوّرات الحرب الروسيّة – الغربيّة في أوكرانيا.
غالبًا ما استرعى "صراع الأخوة"، بين السعوديّة والإمارات، اهتمام المحلّلين الغربيين الذين استغرقوا في نبش بذور الخلاف بين "بين أقوى صديقين في الشرق الأوسط"، إلى درجة أنّهم باتوا يؤقتون عدد المرات التي يتحدّث فيها وليّ العهد "محمّد بن سلمان" مع حاكم الإمارات "محمّد بن زايد"، وهو حديث انقطع، منذ أكثر من ستة أشهر، ويقيّمون على أساسها معايير القرب والبعد بين البلدين، ويعاينون المحطّات التي كانت تجمع بين الرجلين، وفي بعضها كان يرافقهما الرئيس المصري "عبد الفتّاح السّيسي". ولكن يبدو أنّ "طريق الحرير"، بين الرياض وأبو ظبي، بات يعتريه الشّوك وسط ارتفاع مداميك الجدران التي تفصل بين البلدين، لييستشرفوا خلافًا مريرًا قد يتحوّل بينهما بفعل التنافس المحموم إلى عداء معلن.
أما بعد أن دُعيت السعوديّة والإمارات، ومعهما إيران ومصر، ليكونوا في عضويّة "مجموعة البريكس"، فإنّ المسألة باتت تفرض اتخاذ بعدٍ مختلف يُلزم الطرفين على تنظيم الخلاف حرصًا على التماسك الخليجي، والذي تصدّع بسبب المطامع الإماراتيّة بنواتج الحرب على اليمن. هذا فضلًا عن فائض القوة التي يستشعرها "محمّد بن زايد" بما يجعله يتجاوز واقعيّة قدرته على التوسّع ورسم دوائر الحراك الدّولي. ولعلّ "ابن سلمان" يتحمّل جزءًا من المسؤوليّة عن وهم الاستشعار هذا بسبب "تواضعه"، والذي جعل من صغار الأخوة يتسلّقون السّلم بقفزات كبيرة، ويمنّون النفس بالوصول إلى القمّة في وقت قياسي.
ولكن أي بُعدٍ قد تلتزم به "أبو ظبي"، في سياق مقاربة الحدث الجديد، والذي قد يعيد تقسيم العالم إلى معسكرين؟! وكيف سيوفّق "ابن زايد" بين انسياقه الكامل نحو القرار الأمريكي وتشريع أبواب إماراته أمام الاجتياح الإسرائيلي الواسع، وبين فتح فنائه الخلفي للزحف الروسي والصيني مع إبقائه على نوافذه المشرّعة أمام الاستثمارات الإيرانية؟! وكيف سيوفّق في سوقه الماليّة بين الإبقاء على التعامل بالدّولار المتهالك وبين الدخول في سوق العملة الجديدة التي قد تتفق "دول البريكس" على اعتمادها لتكريس التوازن مع الغرب؟!
إنهّا أسئلة لا تختصّ فقط بالإمارات؛ بل بالسعوديّة أيضًا، ولكن الفارق هنا أنّ الرياض تمتلك موقع الشريك الكامل مع الدّول الكبرى في الشرق. وهي كما تمتاز بثقلها الوازن في اتخاذ القرارات في منظّمة "أوبك وأوبك +"؛ هي تمتاز أيضًا بثقلها في رسم موازين القوى في العالم مع شركائها الجدد. وقد مهّدت لذلك قبل سنوات، وتوّجته بالاتفاقات التي وقعتها مع كلّ من روسيا والصين والهند، وبالتنسيق الشامل الذي يجري اليوم مع إيران.
تمارس الرياض، حتى اليوم، سياسة الامتصاص والاستيعاب، وليس في نيتها الاتّجاه نحو الصدام مع الإمارات، حفاظًا على موقع الريادة الخليجيّة والعربيّة وسط أمواد التجاذب العاتية بين قوى الشرق والغرب، وأملًا في أن تستطيع ملء الفراغ الذي قد ينتج عن ضعف أو غياب الدّور الأمريكي في المنطقة.
ومن المحتمل أن تكون "أبو ظبي" تستغلّ هذا الأمر، لتحاول كسب الأوراق التي تضمن لها حجز موقع بين الكبار في الخريطة الدّوليّة المستجدّة. إلا أنّ الاستغراق، في هذا السّياق، قد يدفع المملكة في وقت ما إلى اعتماد منهج آخر يأخذ الطابع التأديبي لترويض الجموح الإماراتي، وما يزال الدرس القطري ماثلًا أمام العيان لاستخلاص العبر.