فؤاد إبراهيم- الاخبار اللبنانية-
في أقل من عام، قفز شاب لم يبلغ الثلاثين من العمر من المجهول، ليصير الملك الفعلي للبلاد، في تطوّر دراماتيكي غير مسبوق في تاريخ السعودية. السؤال: هل نشهد عمّا قريب تتويجاً رسمياً له ملكاً على البلاد؟
أي سيناريو حول مستقبل ولي ولي العهد، محمد بن سلمان، في وراثة العرش السعودي لا بد أن يصطدم بالنظام الأساسي للحكم الصادر في آذار 1992، الذي يمنح الملك صلاحيات مطلقة بما يجعله صانع القرار الوحيد. يعني ذلك ببساطة أن كل السلطات التي يتمتع بها بن سلمان حالياً ليست نابعة من قوته الذاتية، بل مكتسبة من والده.
وفق الحقيقة هذه، يتقدّم السيناريو الأول: موت الملك الحالي ووصول ولي عهده محمد بن نايف، يعني، ببساطة، النهاية السياسية لابن سلمان. حينذاك، سوف يتمتّع ابن نايف بالصلاحيات المطلقة نفسها التي كان يتمتع بها الملوك السعوديون من قبله، أكان ذلك قبل النظام الأساسي للحكم أم في ما بعده، الفارق بينهما صفر، لأن الملك قبل آذار 1992 كان الحاكم المطلق، ولكن دون قانون مكتوب، ثم صار بعده حاكماً مطلقاً، وبالقانون.
في المجالس المقرّبة من أمراء «آل سعود» حديث عن تهميش لدور ولي العهد ووزير الداخلية، محمد بن نايف، الذي لم يعد الرجل الثاني، في ظل اكتساح ابن سلمان الجهاز البيروقراطي للدولة. فهو يمسك ملفات الاقتصاد والتنمية كما يملك قرار الحرب والسلم، ويهيمن على ملف السياسة الخارجية إلى القدر الذي جعل من وزير الخارجية عادل الجبير مجرّد متحدّث إعلامي باسم الوزارة.
حتى العلاقة المتميّزة مع الولايات المتحدة التي راهن ابن نايف عليها في تعزيز موقعه في وراثة العرش باتت غير مضمونة. رسائل جمّة وصلت لمن يهمه الأمر، تفيد بترجيح واشنطن خيار ابن سلمان، منها بيان البيت الأبيض عقب لقاء الرئيس باراك أوباما مع الملك سلمان في الرابع من أيلول الماضي. نقتطف منه الفقرة التالية ذات الصلّة: «ناقش الزعيمان شراكة استراتيجية جديدة للقرن الـ21 وكيفية رفع مستوى العلاقة بشكل كبير بين البلدين.
وقد أطلع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان (الرئيس باراك) أوباما على وجهات نظر المملكة بشأن الشراكة الاستراتيجية. ووجّه الرئيس والملك سلمان المسؤولين في حكومتي بلديهما لاستكشاف السبل المناسبة للمضي قدماً في الأشهرالمقبلة».
لم يرد اسم ابن سلمان في البيان كجملة اعتراضية، بل كانت فقرة مكتنزة بالدلالات ذات الصلة بمستقبل السلطة والرهانات الأميركية في السعودية. لم يكن مجرد «ضرب ذكاء» من ديفيد اغناتيوس حين اختار عنواناً إخبارياً «?The son who would be the Saudis’ king»، الذي نشر في «واشنطن بوست» في 8 أيلول الماضي، أي بعد أربعة أيام على لقاء القمة بحضور محمد بن سلمان. حقيقة الأمر، أن المقالة كانت خلاصة المعطيات التي حصل عليها الكاتب من دوائر البيت الأبيض.
ثمة مقالات لاحقة، حملت دعوات إلى المسؤولين في دوائر القرار بالانفتاح على ابن سلمان والإصغاء إليه، بل الرهان عليه. قد تكون مقالة توماس فريدمان في «نيويورك تايمز»، في 25 تشرين الثاني الماضي، بعنوان «رسالة من السعودية»، وبمنسوبها الدعائي المرتفع، الأكثر دلالة على الميول السياسية العامة في واشنطن والتقاط الأقلام البارزة للإشارات في وقت مبكر. فريدمان الذي كتب مقالاً نقدياً في الثاني من أيلول الماضي وصم فيه السعودية بالإرهاب، ورأى فيها مصدر التهديد للأميركيين وليس إيران، استدرج دعوة لزيارة السعودية، وألقى محاضرة في «مركز الملك سلمان للشباب» في الرياض، وكانت بمنزلة تصويب لصورة السعودية، إذ أراد «تجريم» الكتابة عنها من الخارج، لأنها تتوسّل صورة افتراضية مشوّهة من قبيل أن السعودية «كمصدر لأكثر أشكال الإسلام قسوةً والمضادة للتعددية».
فريدمان، الضيف على ابن سلمان في الرياض، عاد ببضاعة أخرى عرضها في مقالته المذكورة، والمشبعة بآيات التبجيل للشخصية المرغوبة للأمير الشاب. مطالعة استعراضية حفلت بها مقالته عنه، بما يوحي كأنه بات الشاب «المخلّص» الذي على يده يكون إنقاذ المملكة من جمودها المزمن بفعل حكم «الديناصورات»، بل لم يعد ينقص المملكة سوى «قيادة مستعدة لتوجيه هذه الطاقات نحو الإصلاح»! عبارة شديدة الكثافة في دلالتها عن المستقبل الذي يرسم للمملكة تحت حكم «الفارس الجديد»، الذي دخل حلبة السلطة «وشرع في مهمة تحويل الكيفية التي تُحكم فيها المملكة»، وفق فريدمان.
قال فريدمان في ابن سلمان ما لم يقله مالك في الخمر، ولا سيما مخاطبته الوزراء: «أقول لكم أيها الوزراء: منذ أن قدم محمد بن سلمان، القرارات الكبرى التي كانت تستغرق سنتين، يجري تنفيذها الآن في غضون أسبوعين». ما هو أبعد من مجرد الإطراء. يكمن السؤال الكبير: هل لذلك صلة بالخيارات الأميركية في ملف الوراثة؟ الإجابة لا تحسم بثنائية «نعم، أو لا» مجرّدة، من دون استحضار آليات العقل السياسي البراغماتي الذي يرسم خيارات الولايات المتحدة في كل مرحلة. إن الرهان الأميركي على محمد بن نايف، على سبيل المثال، بوصفه الأكثر استعداداً للتعامل مع احتياجات واشنطن في المنطقة، لا يعني على الإطلاق إقفال الباب أمام رهانات أخرى. وعليه، فإن إمكانية نقل الرهان إلى محمد بن سلمان، على الأقل في المرحلة الحالية التي لا يزال فيها والده يمسك بمقاليد الحكم في السعودية، قائمة وراجحة.
على ضوء ما سبق، ما هي السيناريوات المحتملة لتتويج محمد بن سلمان ملكاً؟ قبل ذلك، هل ثمة فرصة له لتحقيق ذلك؟ في الجواب كلام تفصيلي: يدرك الملك سلمان قبل أي شخص آخر أن حظوظ نجله المدلّل متوقفة على بقائه على قيد العرش. ولا ضمانات أخرى يمكن أن تبقي ابن سلمان في أي من مواقعه، بما في ذلك وزارة الدفاع، في حال موت والده.
من الضروري لفت الانتباه إلى أن مواد النظام الأساسي للحكم (5،6،44، 52، 55،56 ـ 58، 61 ،63) تمنح الملك تفويضاً شاملاً ونهائياً في كل شؤون الدولة. المادة (44) تنص على أن «الملك هو مرجع السلطات»، وهو يعيّن ولي العهد ويعفيه بأمر ملكي (المادة 5)، وله حق «حل مجلس الوزراء وإعادة تكوينه» (المادة 57)، كما له «حل مجلس الشورى وإعادة تكوينه» (المادة 68). باختصار، الملك هو الحاكم بأمره، يمنح من يشاء ويمنع من يشاء، ولا يُسأل عما كان يفعل وهم يُسألون!
كل ملك يمكنه الاحتماء بما وهبه له النظام الأساسي للحكم من سلطات، وعليه، فما فعله عبدالله من تغييرات لفتح طريق العرش أمام ابنه متعب، تارة عبر توزيره بتحويل الحرس الوطني إلى وزارة، وأخرى باستحداث منصب ولي ولي العهد، وتعيين الأمير مقرن فيه ليكون ضمانة افتراضية لوصول متعب إلى العرش، وثالثة بإزاحة كل المنافسين المحتملين من طريق الأخير من أبناء عمومته من آل فهد وآل سلطان، قد تتكرر مع أي ملك جديد حتى لو بصيغ أخرى؛ فخطة تأهيل السلطة لاستيعاب متعب استغرقت نحو عقد من السنين، أي منذ تولّي والده، عبدالله، العرش في آب 2005 حتى وفاته في كانون الثاني 2015. لكن بالنسبة إلى الملك سلمان، استكملت الخطة فصولها في غضون ثلاثة أشهر، وذلك بإعادة تشكيل السلطة بطريقة انقلابية مهّدت لإدماج ابنه في خط الوراثة بصورة خاطفة.
رغم ذلك كله، تبقى المشكلة قائمة؛ من يضمن ألا يفعل ابن نايف الشيء نفسه مع تركة سلمان، وأن يأتي، على سبيل المثال، بأخيه أمير المنطقة الشرقية سعود بن نايف ولياً للعهد، وتقريب بعض الأمراء من أجنحة أخرى واستبعاد محمد بن سلمان وفرقته التي تدير حالياً وزارات الدولة. ثمة من يقترح تعديلاً جوهرياً في بعض بنود النظام الأساسي للحكم، بما يسمح لمن هم دون الملك بالحصول على ضمانات، كتجنّب إعفائهم من مناصبهم (خصوصاً ولي العهد وولي ولي العهد). في حالة أخرى، يُنتزع من يد الملك حق إعفاء ولي العهد، ويعطى لهيئة البيعة، تماماً كما هو مقرر في اللائحة الداخلية لنظام الهيئة. قد يكون هذا الخيار مريحاً ولكنه غير مطمئن بالنسبة إلى سلمان ونجله، لأنه تبقى الحاجة إلى ضمانات أقوى لتثبيت موقعية ولي ولي العهد.
السيناريو الآخر، وهو يتحقق حالياً على الأرض، بأن يتغلغل محمد بن سلمان في كل مفاصل الدولة، بما يفرض واقعاً لا يمكن تجاوزه، ولا ينقصه سوى التتويج الرسمي. وقد يكون خيار من هذا القبيل مثالياً بالنسبة إلى سلمان الذي يرى أن تمدد سلطات ابنه بصورة هادئة وتدريجية يجعل الناس يألفونه كشخصية مرشّحة لتولي العرش بانسيابية وبتلقائية.
في المقابل، فإن قفز سلمان على الاعتبارات العائلية والتوازنات السياسية، بل حتى عامل الزمن الذي يتعارض مع مستوى وعي المجتمع وتطلعاته الإصلاحية، لا يوفر ضمانة أكيدة لإمكانية نجاح هذا السيناريو في المستقبل، أي بعد موت الملك الحالي. لكن، يبقى سيناريو تتويج ابن سلمان ملكاً قائماً وراجحاً، ولكن السؤال في شكل إخراجه. ثمة من يرجّح السيناريو القطري، بتنحّي الملك عن العرش لمصلحة ابنه محمد، على أن يبقى محمد بن نايف في منصبه كولي للعهد، فيما ينال الملك سلمان صفة «الملك الوالد». وهو سيناريو طرح منذ بداية تولّي سلمان العرش، وتحدّث عنه مراقبون لشؤون العائلة المالكة في الحجاز.
سيناريو آخر يميل إلى ترجيح خيار عزل محمد بن نايف من منصبه لإفساح المجال أمام محمد بن سلمان كي يصبح ولياً للعهد مع بقاء والده ملكاً، أي استحضار النموذج المجهض الذي أراد الملك سعود فرضه في حياته في آواخر الخمسينيات من القرن الماضي، بأن يجعل الوراثة عمودية لا أفقية. ورغم أن «سلمنة» الدولة السعودية تبدو رغبة حاضرة لدى بيت سلمان عموماً، فإنها نزعة تنطوي على مخاطر على مستوى تماسك الأسرة المالكة ووحدتها ومستقبلها، ولأن الإخلال بالإجماع والتوافق بين الأجنحة الرئيسة يهدّد الكيان برمته. فما البديل؟
هناك سيناريو آخر يبدو ضعيفاً، ولكنه غير مستبعد، وهو اعتماد النموذج الكويتي، بأن يصير الملك في بيت، وولاية العهد في بيت آخر، كأن يكون الملك في بيت سلمان وتكون ولاية العهد في بيت نايف. ولكن مثل هذا السيناريو يتطلب تشريعاً، لذلك لا بد من تعديل في مواد النظام الأساسي للحكم. والبديل من ذلك اعتماده عرفاً، وهذا يوجب توافقاً عائلياً. لكن كيف يمكن ذلك في ظل غياب الانسجام بين الأجنحة نتيجة التهميش الواسع النطاق الذي طاول أغلبية الأجنحة وتركيز السلطة في بيتين وتالياً شخصين: ابن نايف وابن سلمان؟
في كل الأحوال، أمام الملك سلمان مدة قصيرة لحسم قراره في ما يتعلق بالمصير السياسي لنجله المدلّل. من الواضح حتى الآن أن سلمان يميل إلى عملية جراحية دقيقة لتحقيق نصاب يكفل انتقالاً سلساً للسلطة بتتويجه ابنه ملكاً، ولكن دون تداعيات... السؤال: متى سيفعل ذلك؟
حماية من خارج الأسرة المالكة؟
تتوارد مؤشرات تفيد بأن الملك سلمان يعمل على تشكيل تحالف من خارج الأسرة المالكة، مستفيداً من علاقاته الواسعة والمتينة مع زعماء القبائل والنخب الثقافية والإعلامية في نجد والحجاز وغيرهما، منذ كان أميراً على الرياض ما بين 1963 ــ 2011. لا ريب في أن مثل هذه التحالفات كفيلة بتوفير رافعة اجتماعية وسياسية لخطة سلمان في توريث ابنه. ولكن مثل هذا السيناريو يتطلب ثمناً باهظاً، لأنه سوف يكون على حساب مركزية الأسرة المالكة ونفوذها في الدولة. هناك لا شك تدابير حمائية تحول دون فقدان الأسرة موقعها، بإبقاء مناصب سيادية مثل (الداخلية والدفاع والحرس) في أيدي أمراء «آل سعود».
تعيين عادل الجبير، مع أنه من خارج الأسرة في منصب سيادي (وزيراً للخارجية) للمرة الأولى في تاريخ «آل سعود» (باستثناء مرحلة الصراع بين سعود وفيصل حينما تولى إبراهيم السويل المنصب لعدّة شهور بين عامي 1961 ــ 1962) هو ليس المثال اليتيم، فالفريق الوزاري الذي جاء به سلمان هو حصيلة الروابط التي أقامها مع نجله محمد، وهذا الفريق ينتمي إلى قبائل نافذة، ويمكن أن يشكّل مخزوناً استراتيجياً لجناح سلمان وتعديل الخلل في موازين القوى داخل الأسرة المالكة، بالنظر إلى ضآلة نفوذ ابن سلمان فيها. هذا لا يعني أن ابن نايف أحسن حالاً منه، فالتسريبات من مجالس الأمراء تفيد بأن ابن نايف لا يحظى باحترام كبار الأمراء، خصوصاً من أفراد الجيل الأول، فضلاً عن أبناء عمومته، بمن فيهم المحسوبون على الجناح السديري، بسبب نزوعه نحو التفرّد بالقرار.