جاسر الدخيل- خاص راصد الخليج
يشعر الانسان بارتباك عقلي وعاطفي عندما يسمع خبر قيام اب اربعيني بذبح ابنه البالغ من العمر احد عشر عاما بدم بارد وهو يظن انه يتقرب بذلك الى الله.
فالجريمة التي ارتكبت بمحافظة «احد المسارحة» في منقطة جازان وان كانت جريمة بشعة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، الا انها باتت تشكل جزءا من مشهد عام يعم المنطقة ويكاد يكون هو المشهد الطاغي. لم يفعل الطفل عبد الله شيئا، لم يسأل سؤالا محرجا، لم يتصرف تصرفا مشينا، لم يسلك سلوكا مشبوها، ليست الجريمة بدوافعها تتعلق بالطفل نفسه، بل بالاب.
ورغم التوسلات التي ربما اطلقها الطفل تلميذ الصف الرابع ابتدائي، الا انها لم تلق اذانا صاغية من «الوالد» الواقع تحت تأثير خطاب ديني يتعلق بقصة ابراهيم وولده اسماعيل عليهما السلام.
وكعادته، في حالات مشابهة، سارع اعلامنا الوطني العظيم للحديث عن الوضع النفسي للمجرم، ولمحاسن الصدف فإن بيانات القوى الامنية ولجان التحقيق المختصة غالبا ما تكون مطابقة «لتوقعات» الصحافة. فيصدر البيان الرسمي ليؤكد اضطراب القاتل النفسي، وعدم سويته العقلية.
اننا نملك اعلاما عظيما يشتم رائحة اسباب الجريمة فيعرف اسبابها ودوافعها فور حصولها ويا حبذا لو يقوم هذا الاعلام بتوظيف مهاراته لكشف الجرائم قبل وقوعها.
تأتي هذه الجريمة بعد ايام على قيام احد «المرضى النفسيين» ايضا بقتل والدته المسنة عبر اطلاق النار عليها مباشرة. وبعد اشهر من جرائم عدة قتل المجرم فيها اباه او اخاه او عمه او ابن عمه ...الخ.
لن أقول ولا يصح لي القول ان مجتمعنا كان خاليا من الجرائم، فلا يوجد ولم ينوجد على سطح الارض، منذ ان خلق الله الخليقة، مجتمعا خاليا من الجريمة. لقد قتل قابيل هابيل وكانا يمثلان نصف المجتمع ، فما بالنا والمجتمعات اصبحت تعد بالملايين، فتكثر والحال هذه المخاصمات، وتتعقد العلاقات.
هل هذا يعني انني أبرر الجريمة؟ بالطبع لا، ولا هذا ما اقصده انما قصدت ان اقول اننا لا ندعي ان مجتمعنا كان خاليا من الجريمة.
اذن ما الذي يمييز هذه الجريمة ومثيلاتها عن سابقاتها؟ غالبا ما كانت الجرائم السابقة، وهنا اتحدث عن الجرائم الفردية لا الجماعية الناتجة عن الحروب وغيرها، غالبا ما كانت لها اسبابها المباشرة المرتبطة بالطمع: طمع بمال، بميراث، بمنصب، بزعامة، خلاف على نسوة، ثأر لشرف، لقتل، وهكذا.. لكننا لم نعهد جرائم فردية ترتكز الى اسباب دينية الا بعد ان انتشر هذا الفكر الوهابي بين المسلمين انطلاقا من شبه الجزيرة العربية، من بلاد الحجاز ونجد.
قد يقال ان الجريمة التي نتحدث عنها ليست فكرتها من ابتكارات الوهابية بل هو «تجسيد» لواقعة وردت في القرآن الكريم، ورغم صحة هذا الادعاء، وبعيدا عن كون هذا «التماهي» مغلوطاً من الاساس باعتبار ان الواقعة القرآنية تستند الى رؤيا لنبي من الانبياء، الا انه لا يمكننا النظر الى الجريمة بمعزل عن مشاهد الدم اليومية، واحكام القتل المستمرة المستندة الى النص الديني بحسب الزعم. ومن المعلوم بحسب علم النفس ان غلبة المشاهد الدموية، وحشو المناهج الدراسية، وعدم خلو الفضائيات الدينية من التركيز على احكام القتل بقطع الرأس والايدي سوف يؤثر على المجتمع بشكل عام، فيستسهل الاب قتل ابيه، ويعمد الابن لقتل امه، عند اي حادثة، صغيرة كانت او كبيرة، وقد لا يصعب عليه ايجاد المبرر لفعلته.
لو نظرنا الى الوضع الثقافي والديني والتربوي داخل المملكة سنرى حجم التناقض والتنافر بين خطاب يسعى لالقاء اللوم على الآخر في انتاج هذا الاجرام ويردّه إما الى اسباب خارجية تتآمر على الوطن، او الى اسباب شخصية تعتبره انحرافا نفسيا، وبين خطاب آخر يبرر احكام القتل بانها موافقة للشريعة التي يصفونها بالسمحة في سياق التبرير للقتل. امام مشهد كهذا، لن يصعب ان يصاب الانسان بأزمة نفسية ناتجة عن نوع من الانفصام بالشخصية، بين ميول للحداثة مع الحفاظ على الهوية، وبين رفض للحداثة بدعوى معارضتها للسلف الصالح.
ان محاربة الارهاب لا تكون بكشف خلية ارهابية هنا، ولا باعتقال مجرم قبل تنفيذ جريمته. ان محاربة الارهاب لن يكون مجديا الا عندما نحارب كل اشكال التطرف والتخلف وذلك لا يبدأ الا في الانطلاق من المناهج التربوية والتعليمية والدينية واقفال عشرات المحطات الفضائية التي تبث خطاب الكراهية والجاهلية. بمعنى آخر لا بد من اعادة النظر جديا في موافقة افكار الوهابية وعقيدتها لمذهب أهل السنة والجماعة، وغير ذلك فاننا سنشهد يوميا جرائم ستتصاعد كماً ونوعاً طالما اننا نردها لاعتلال نفسي وانحراف سلوكي متجاهلين الحقيقة في ان هذا المجرم ليس سوى مريض نفسي برتبة وهابي.