محمد المزيني- الحياة السعودية-
كلما اقتربت من ملف هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصاب بالإحباط، لكثرة ما كتبت عنها وتعاطيت معها في شكل أو آخر.
أعوام طويلة ونحن نكتب ونحذّر من مغبة تلك الصلاحيات، حتى تحولت بعد ذلك سلاحاً.
ظننا برهة من الزمن أن الهيئة أعادت تقديراتها لأوضاع الناس، وتفهمت طبيعة التكوين البشري المجبول على الزلل، وقرأت بعين فاحصة مقاصد الشريعة السمحة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يقدم عادة الستر على الفضيحة، والشبهة على الإدانة، وحسن النية على سوء الطوية، وأنها شرعت في استخدام سبل سهلة لينة، فما كانت ترغمهم عليه بالقوة، صارت تقنعهم به باللين.
حقيقة بدا هذا واضحاً وملموساً لوقت قصير، حتى طفق الناس يسلخون من ذاكرتهم كل ما استقر فيها من ممارسات أودت بأرواح إلى التهلكة، وبسمعة إلى التدنيس، تخففنا من المظاهر العشوائية التي كانت تحدث، بعد الخلاص من المتعاونين الذين كانت ترمى على كواهلهم كل تعديات رجال الهيئة وأخطائها، التماساً للخلاص وتبرئة كيان الهيئة وإدارتها من تبعاتها.
أصبح أدنى تماسٍ مع الهيئة نقداً أو رأياً مخالفاً لاتجاهاتها هو بالضرورة تعد على هيبتها التي تصل عند بعضهم إلى هيبة الشريعة نفسها، فأنت أيها الناقد صاحب هوى وفتنة ومغرّض، وأخيراً توصم بأنك علماني خبيث الطوية، يستنهضون ضدك كل «التُبّع» حتى تصل الحال ببعضهم إلى اقتفاء زلاتك والتقاط أخطائك؛ لأجل اصطيادك، فأنت رهن ألف عين مترصدة، حتى تقع في شراك الشبهة، فيأخذونك. قلت كنا ارتحنا قليلاً من هذه الفوضى فماذا تغير يا ترى؟
اليوم، كأننا نعود إلى المربع الأول، فهل تمكن الأشاوس الذين احتفلوا ذات يوم على الطريقة الغربية بتقاسم (قالب الحلوى) حين رحل رئيسهم السابق عن كرسي الرئاسة؟ فقط لأنه حجّم ممارسات بعض المنتسبين المتشددين وقلّم أظفارهم.
رأينا ما حدث منهم خلال الأيام الماضية، وأكاد أجزم أن رئاسة الهيئات -بما يقع على عاتقها من مسؤولية دينية واجتماعية- لا يُرضيها ألبتة هذه الممارسات، إلا أن الخلل يكمن في عمق الهيئة، ويجعل الأخطاء التي يرتكبها منتسبوها يتسرب، ولهذا أسباب كثيرة، منها: أن الهيئة جهة اعتبارية مستقلة بصلاحياتها ليس فوقها سوى رئيس مجلس الوزراء، وبهذا تكون بمثابة وزارة، إلا أنها تختلف عن الوزارة الاعتبارية ذات الأهداف النفعية المعلومة، اختلافها يكمن في نوعية منتجاتها للوطن والمواطن، فهي تعمل على أربعة منتجات رئيسة تسميها خدمات، وهي: خدمة مكافحة الجرائم المعلوماتية، سواءً من طريق الحصول على معلومات، أم محادثات، أم صور لحياة إنسان خاصة، ونشرها في وسائل تقنية المعلومات، من أجل التشهير أو إلحاق الضرر به. وخدمة مكافحة تهديد شخص أو ابتزازه بالصور، أو المحادثات، أو العلاقات المحرمة، لحمله على القيام بفعل الفاحشة أو الحصول على المال. وخدمة مكافحة المنكرات الأخرى كالمساس بالقيم الدينية، أو مكافحة الاتجار بالجنس البشري، أو مكافحة المساس بالآداب العامة، أو مكافحة الميسر، أو التخلف عن الصلاة وغيرها. وخدمة مكافحة الأعمال السحرية، والشعوذة، والدجل، والقبض عليهم ومتابعتهم.
طبعاً، كل هذه الخدمات ليس لها عائد مادي يصب في موازنة الدولة سنوياً مثلها مثل أي وزارة، ولو أمعنا النظر في هذه الخدمات المكلفة جداً مادياً وبشرياً لوجدناها تتقاطع مباشرة مع عمل إدارات أخرى مثل خدمة مكافحة الجرائم المعلوماتية التي هي من صلب صلاحيات هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، الصادر نظاماً بمسمى مكافحة الجرائم المعلوماتية بقرار مجلس الوزراء رقم 79 وتاريخ 7-3-1428هـ، وتمت المصادقة عليه بموجب المرسوم الملكي الكريم رقم م/17 وتاريخ 8-3-1428هـ. وكذلك خدمة تهديد شخص أو ابتزازه بالصور، أو المحادثات، أو العلاقات المحرمة، التي هي من صلب عمل وزارة الداخلية التي تكتسب احتراماً شعبياً كبيراً من خلال قدرتها الفذة في ضبط النفس عند ملاحقة المجرمين والإرهابيين، وتتبعهم، بهدوء لا يثير جلبة أو صخباً، وهو ما لا يحدث مع هيئات الأمر بالمعروف التي رأينا كيف تشهّر بضحاياها، بينما دأبت وزارة الداخلية على ألا تعلن عن كل الموقوفين بتهم إلا وفق ما تقتضيه الحاجة الأمنية. يبقى معنى خدمة مكافحة المنكرات الأخرى، كالمساس بالقيم الدينية، أو مكافحة الاتجار بالجنس البشري، أو مكافحة المساس بالآداب العامة، أو مكافحة الميسر، أو التخلف عن الصلاة، وخدمة مكافحة الأعمال السحرية، والشعوذة والدجل والقبض عليهم ومتابعتهم، وفي هاتين الخدمتين ثمة خلل، إذ لم نعثر على الأنظمة والقوانين والآلية الضابطة لها، فما نشاهده يعتمد على أسلوب «خذوه»، بغض النظر عن نوع الجريمة الأخلاقية وقباحتها، كما أن عمليتي الحراك والتحري تركتا لهم على مصراعيها، يأمرون الناس بغلظة مستفزة، وأحياناً بما يشبه التهديد.
طبعاً لا نعمم، فمنهم رجال فضلاء، عرفوا قدر مسؤوليتهم وأعطوها ما تستحق، إلا أن هذا ليس ما نريد تبيانه هنا، فالمسألة برمتها ترتكز على كينونة هذه المؤسسة الدينية وصلاحيتها ومسماها، أولاً: هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اشتقت من اسم أوسع وأشمل، وهو «الحسبة»، الذي بُدئ به تطوعاً واحتساباً مع بداية تأسيس الدولة، كان يقوم بها رجال من تلقاء أنفسهم حتى أمر الملك عبدالعزيز بتأسيس «ولاية الحسبة»، التي كانت مهماتها تنحصر في التنويه على الصلاة ومعاقبة المتخلفين عنها.
اليوم توسعت البلاد، وأخذت طريقها إلى مشابهة الدول العالمية الكبرى في طرائق حياتها ومعاشها، فلم تعد قادرة على تمثيل أدوارها العتيقة، بمعنى أن وجود الهيئات بهذه الأعمال التقليدية المحضة وملاحقة الناس بهذه الأساليب العشوائية لم تعد تجدي نفعاً، وهذا لا يعني أن نلغي هذه المؤسسة، بل نعيد صياغتها وفق رؤى أكثر ثراء وتقدماً، بأن يعاد إليها اسمها الذي بدأت به وهو «الحسبة»، وأن تربط مباشرة بوزارة الداخلية، وتندرج مهماتها في إطار مسؤولياتها، وتستحدث لها وظائف تساند أعمال الوزارة، وأن تقوم بالإسهام في توعية الناس بأهمية التمسك بعرى الدين، وتقدم لهم الأنموذج الإسلامي الحقيقي المبني على الأخلاق والقيم السامية، وأن تقوم بانتزاع لوثة الإرهاب والتطرف من عقول بعض الشباب المنسحبين إلى دعوات الجماعات المتطرفة، وأن تعمل على ملاحقة خيوط هذه الدعوات ومحاربتها، وأن تسهم في إيجاباً في علاج من ابتلي بشيء من المنكرات، كمدمني شرب الخمر وتعاطي الحشيش، من خلال ملازمتهم ووعظهم وإرشادهم، أما الأعمال الميدانية فتعمل على ضبط أمن الأسواق، وحماية المجتمع من المضايقات، والتحرشات، والتعديات الأخلاقية متى ظهرت عياناً.
بذلك يمكن لنا أن نقف صفاً واحداً مع رجال «الحسبة» ونصفق لهم بحرارة، بلا مزايدات جوفاء، أو اتهامات لا تخدم وطننا ألبتة، أرجو ألا يطاولني منها شيء.