دعوة » مواقف

"فتاة النخيل"... صراع في السعودية

في 2016/02/19

محمد الصادق- العربي الجديد-
خبر جرّ رجال من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الرياض فتاة في الشارع، وكشف سترها أمام المارّة، ليس غريباً. هذا أمرٌ طبيعي لجهاز ديني رسمي، يملك حق ملاحقة أفراد المجتمع، والتطفل على خصوصياتهم. كيف يلبسون ومع من يتحدثون وفي ماذا يفكرون. حتى لو كان الأمر فيه بعض اللبس، لا يهم، المهم أن يبقى المجتمع، على مستوى الممارسات الاجتماعية، تحت سيطرة رجال الدين. هكذا صيغ الاتفاق التاريخي.
اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، الأسبوع الماضي، بمقطعٍ تم تصويره أمام مجمع النخيل التجاري، في الرياض، لأحد أعضاء الهيئة، وهو يهم بسحب فتاة وسحلها في الشارع أمام الناس. ولولا تدخل رجل من أمن المجمع، خالد الدوسري، والذي أضحى بطلاً في نظر كثيرين، لما نجت الفتاة. ليس هذا الموقف جديداً في المملكة، فطالما كانت هناك قصص مشابهة، يكون بطلها أحد رجال هيئة الأمر بالعروف والنهي عن المنكر، يمارس العنف تجاه مواطن أو مواطنة؛ لأنه اعتبر أن الشرع تم تجاوزه، بحسب فهمه، وهو فهم مختزل، ناتج، غالباً عن مدرسةٍ سلفيةٍ متطرفة. ولأن الشرع ضخم جداً، وغير موحد، وغير مترجم لقوانين واضحة، يتم الاعتماد على الاجتهاد الشخصي، في معظم الحالات، غير المنصوص عليها بنص صريح. لذا، أصبح مثل هذا الانتهاك لخصوصيات الناس شائعاً، فالجهاز يمارس دور الرقيب على السلوكيات الاجتماعية بسلطة القانون والدين معاً؛ لكونه أحد الأذرع الأيديولوجية الدينية الرسمية في الدولة التي تقوم بضبط حركة المجتمع وتوجيه سلوكه.
انفجر موقع "تويتر"، الأكثر إقبالاً من السعوديين، بعد تسريب مقطع فتاة النخيل. وشن التيار الديني المتطرف حملة على الفتاة وحمّلها مسؤولية ما جرى عليها؛ وهو يظن في نفسه أنه المسؤول الأول عن حماية أعراض المواطنين، وأنه "مكلف شرعاً" بمنع حصول مفاسد اجتماعية، ويعتبر مجرد خروج المرأة من منزلها، لغير الضرورة، فعلاً "مُحرماً شرعاً". وعليه، ليس لما حصل لها سوى عاقبة لسوء فعلتها (الخروج من المنزل بدون محرم). وبذلك، هي تستحق تعنيفها من عضو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واعتبر التيار الليبرالي المدافع عن الحريات الاجتماعية هذا التصرف تجاوزاً لحقوق الإنسان الطبيعية، وجريمة في حق فتاة بريئة لم ترتكب أي جرم، غير مشيها في الشارع، وأنه لا بد من إيقاف هذا الجهاز المتسلط عند حده، فقد تجاوز قوانين وأعرافاً اجتماعية كثيرة، بسحله فتاة في الشارع، كما سبق له أن قتل مواطنين أبرياء في أثناء مطاردة بعض المشتبه بهم. وبذلك، فإنه أصبح مهدداً للسلم الاجتماعي.
يتضح، من السياق أعلاه، أن عقارب الساعة تخالف نواميس الكون، وهي فعلاً تعود إلى الوراء، وإن متابعة الصراع داخل المجتمع السعودي، هذه الأيام، كمن توقف به الزمن عند عصر "الصحوة الإسلامية"، فالمجتمع يراوح مكانه بين ثنائية رجل الدين المتسلط والمواطن المتحرّر. شيء يشبه صراعات القرون الوسطى، أو أوروبا قبل عصر الأنوار، حين كان "المطاوعة" الأوائل، في بريطانيا العظمى، يمارسون الدور نفسه في الأسواق والشوارع. لكن التيارات السعودية حافظت على صورتها، كما لو كانت في ريعان شبابها، عبر تجديد صورة الصراع الأزلي بين تيارين، يقاوم أحدهما العودة بالناس إلى عصر ما قبل التمدن والتعليم والانفتاح على العالم، وتيار آخر، يقبع في الماضي السحيق، ويبحث لنفسه عن موطئ قدم في زمنٍ، لا وجود للصحوة فيه في عقول سعوديين كثيرين وقلوبهم.
يستقي جهاز الهيئة قوته من اثنتين: السلطتين القانونية والدينية. فالسلطة القانونية وهبتها له الدولة الحديثة، لكونه أحد أجهزتها الرسمية التي تملك حق القبض على المواطنين وإحالتهم إلى المحاكمة، متى ما تجاوزوا المحظورات الأخلاقية التي أقر بها "الشرع"، ولأن تطبيق الشريعة من المقدسات، وهي أحد مرتكزات الشرعية السياسية، منذ تأسيس الدولة، فإن هذا الجهاز لا يمكن إيقافه، إلا بقرار من السلطة السياسية في البلد.
في الأعوام الأخيرة، تعرّض جهاز الهيئة لانتقادات عنيفة من تيارات اجتماعية واسعة، تعتقد أن الزمن تجاوز فكرة منع الناس من مزاولة حرياتهم الطبيعية بالإكراه، لكن الجهاز استرجع، منذ عام تقريباً، سطوته وأكثر، وكأن أحداً يتعمد تأبيد الصراع الاجتماعي عن طريق قضايا المرأة.