غسان بادكوك- عكاظ السعودية-
لا أعتقد أن هناك جهة حكومية تماثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث الجدل الذي يدور حولها، بعد أن (نجحت) في الاستئثار بنصيب الأسد من اهتمام الإعلام السعودي، ربما منذ نشأته وحتى اليوم! سواء التقليدي منه أو الرقمي، أو حتى بنوعيه الرسمي والاجتماعي! وبطبيعة الحال فإن المساحة الكبيرة للتواجد الإعلامي للهيئة لا يعد إنجازا بحد ذاته، بقدر ما يعتبر – في تقديري – مؤشرا على وجود حاجة ماسة لضبط وتنظيم تصرفات بعض منسوبي الهيئة التي تؤدي غالبا لتجاذب شديد في المجتمع بين تيارين، أحدهما يوصف بالـ(محافظ) ويستميت في الدفاع عنها، والآخر يصنّف بالـ(منفتح) ولا يكف عن انتقادها ومحاولة التقليل من (إنجازاتها)!.
والمتابع لإعلامنا خلال الأسبوع الماضي - على الأقل - لا بد وأن يكون قد توقف مليا أمام الكثير من مقالات الرأي والأخبار والتغطيات والتغريدات، التي كانت الهيئة موضوعها الرئيسي بعد سلسلة من الوقائع التي كانت طرفا فيها، بدءا بحادثة مطاردة فتاة النخيل مول، ومرورا باعتقال دمية أمام أحد المحلات التجارية! وانتهاء بالتشهير بإعلامي معروف قبل أن تتبين براءته، ووصولا إلى إيقاف فنان في أحد الأسواق بسبب التقاط الصور مع المعجبين! ليكتمل الأمر بخبر إعفاء رئيس هيئة الرياض، في مؤشر ربما يدل على عدم الرضا عن أداء المسؤول السابق، إلا أن القضية في تقديري لا يمكن حلها بإعفاء هذا المسؤول أو ذاك بقدر ما تتعلق بمعالجة الخلل (التنظيمي والنظامي) الذي لا تخطئه عين مراقب.
ومقالي اليوم لا يهدف للانتصار لرأي فريق على آخر، ولا للتعليق على الحوادث السابقة، التي أخذت حيزا واسعا من التغطيات، وإنما سأرّكز على أمرين، أولهما هو التعليق على البيان الصادر عن الهيئة أخيراً، وثانيهما هو إعادة طرح تصور قد يسهم في وضع الأمور في نصابها، وتخفيف (الحساسية) المزمنة التي تثيرها الهيئة والتقليل من الاحتقان المجتمعي بسبب التباين الواضح في الآراء بين مؤيديها ومناوئيها، ولكنني أود التأكيد قبل ذلك على أنني لست مع الرأي القائل بعدم وجود حاجة للهيئة، لسبب رئيسي هو أننا كمواطنين لا نملك تقرير هذا الأمر؛ كونه يندرج ضمن اختصاصات ولي الأمر، وليس وفقا لآراء الناس.
وأبدأ بقول المتحدث الرسمي لهيئة الرياض بأن (الوقائع التي تثبت فيها تجاوزات منسوبي الهيئة لا تشكّل سوى نسبة ضئيلة وفقا لدراسة علمية أعدها معهد البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)، وأتوقف عند ملاحظتين هما:
1 - أن العبرة هنا لا تعتمد على نسبة التجاوزات بل بمقدار الضرر الذي لا يمكن إصلاحه بعد أن يصيب ضحايا تلك الممارسات غير النظامية، لأن التسبب في فقدان حياة فرد واحد، أو تشويه سمعة آخر، أو تعريض الناس لإصابات جسدية ونفسية جسيمة، سواء عليهم أو على أفراد أسرهم، هي جميعها من الأضرار التي يصعب تعويضها أو جبرها؛ حتى لو تم عقاب المتسببين بها.
2 - أن الدراسة التي أشار إليها سعادته ينبغي أن تقوم بها جهة محايدة تماما، فضلا عن أن التكليف بإجراء مثل تلك الدراسات ينبغي أن يصدر من قِبل جهة محايدة أيضا، ومع كل التقدير (الأكاديمي) للجهة المنفذة للدراسة، فإنه لا يمكن الركون لنتائجها؛ كونها جامعة متخصصة في الدراسات الشرعية، يجعلها أقرب لمجال عمل الهيئة، وهو ما يضع بعض علامات الاستفهام أمام نتائج دراستها تلك.
من جانب آخر، يذكر مسؤول الهيئة بأنها (تبادر إلى التحقّق والتحقيق في كل ما يشتبه فيه من تجاوزات، وتتخذ الإجراءات المناسبة وفق ما تقتضيه التعليمات ونظام تأديب الموظفين)، ولا شك بأن هذا نهج محمود ولكنه ليس استثنائيا ولا تطوعيا، لأن عدم القيام به يعد مخالفة للأنظمة واللوائح، أمّا العبرة هنا فهي هزالة العديد من العقوبات التي دأبت الهيئة على اتخاذها ضد بعض المتجاوزين من موظفيها في قضايا سابقة، لا يتسع المجال لذكرها، ولكنني أكتفي بالعقوبة المفضلة لدى الهيئة وهي نقل المتجاوز للعمل في مكان آخر!.
أما بالنسبة لقول المتحدث الرسمي، بأن الهيئة (ترحب بالنقد البنّاء الذي يقصد به التقويم)، فهذا بدون شك تطور إيجابي، انتظرناه طويلا - كمجتمع -، وآمل أن تعتبر الهيئة أن مضمون مقالي هذا هو مما يندرج ضمن النقد الموضوعي الهادف للتصحيح، وأن تبادر إلى إثبات ترحيبها بالطروحات الموضوعية، من خلال التجاوب مع مقترحي بضرورة مبادرتها في أسرع وقت ممكن، لإصدار لائحتها التنفيذية، شريطة تضمينها تعريفا (محددا) لأنواع المنكر التي تستوجب عمليات المداهمة والمطاردة والإيقاف والتشهير وغيرها من الممارسات التي يشتكي منها المجتمع، لأن استمرار ترك الأمر للاجتهادات الفردية، هو ما أوصلنا للوضع المحتقن الحالي.
ختاما، تظل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جهازا حكوميا حيويا، يؤدي دوره المهم؛ مثله مثل باقي الأجهزة الأخرى، كما يحظى استمراره بتأييد شريحة مجتمعية لا يستهان بها في المملكة، إلا أن تقنين أعمال الهيئة هو أمر مطلوب وحتمي؛ إذا ما أردنا تعزيز استقرارنا الداخلي بوضع حد لتجاوزات بعض أفرادها، ولن يتم ذلك سوى بتشريع نصوص نظامية جديدة، رادعة وقاطعة وواضحة ومحددة، لمعاقبة المتجاوزين، وإجراء التحقيقات والمحاكمات وتنفيذ العقوبات خلال وقت قصير من حدوث المخالفات، لأن موظف الهيئة الذي (يغرد خارج السرب) لا يختلف عن الطبيب المهمل أو المسؤول الخائن للأمانة أو الإداري المرتشي، حيث إن ما يجمع بينهم حينئذٍ، هو ارتكاب ما يستوجب المساءلة والعقاب. هل تستجيب الهيئة؟!.