مجاهد عبدالمتعالي- الوطن السعودية-
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على المستوى التنظيمي، وأجهزة الدولة الأمنية هي المخولة فقط باقتحام خصوصيات الناس وفق ضوابط شديدة لا تؤدي إلى نزع الأمن النفسي من دواخل الناس تجاه الدولة نفسها
عبر هذا العنوان يمكن إقامة ثورة تحرق الأخضر واليابس كما تفعل داعش، بل وأسوأ من ذلك، وبالإمكان أنسنة هذا المفهوم وفق معايير حضارية، بالإمكان أن تنكر على الناس خلع النعال أثناء الصلاة في المسجد، استنادا للحديث الصريح الصحيح (خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم) صححه الألباني، وبالإمكان استيعاب التطور الحضاري الذي جعل الصلاة بالنعل داخل المسجد شيء غير مستساغ ولا مقبول اجتماعيا، وإن كان مستحبا عند البعض، يذكر أحد الذين عاصروا فترة جهيمان، أن الظاهرة بدأت بأناس كانوا يقتحمون المساجد بنعالهم تأسيا بالشكل الحرفي لدلالة النص، مع محاججتهم بأنه لا يسوغ ترك النعل ما دام اليقين بطهارته، وهم متيقنون من ذلك، وعليه فلا صارف للنص.
إذاً، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق الأمزجة المتحمسة قد يعطي زخما يؤدي لانفلات أمني، يعرفه القارئ البسيط للتراث، وما حكاه ابن خلدون في مقدمته عن من أسماهم بالصقاعين نسبة لقلة الفقه والعصبية الشديدة.
يبقى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرورة مراعاة الثوابت السياسية للدولة الحديثة، فمن أعظم المنكرات الخروج على (النظام العام) بدعوى الأمر بالمعروف، ومن أعظم المعروف معرفة (النظام العام) في إبلاغ الجهات المختصة عن ما يرقى لرتبة الجريمة من غير تحسس ولا تجسس ولا سوء ظن ولا تتبع عثرات، فكل هذه الصفات (التحسس والتجسس وسوء الظن وتتبع العثرات) منكرات يجب النهي عنها، فكيف تكون أداة من أدوات النهي عنه؟!!.
النظام العام الذي تضعه الدولة هو الثابت الرئيسي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاولة الخروج على هذا النظام بالمزايدة على نظام الدولة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو منكر في حد ذاته، منكر يحاول إنهاك الدولة الحديثة بمعطيات تراثية لا تتناسب وتقدم الدول وتحضرها، وقد رأينا من رأى في دولة طالبان النموذج الإسلامي لأنها لم تشارك في هيئة الأمم المتحدة (الكافرة)، والآن نجد من يبارك داعش لأسباب شرعوية أخرى، وما نطرحه هنا عن مفهوم (نظام الدولة) يقصد به مجمل أذرعتها في سلطاتها الثلاث (التنفيذية والقضائية والتشريعية)، ولا يقصد هنا مفهوم (السلطة) الذي قد يتحول إلى تسلط عبر ممارسات يجب الترافع ضدها وفق أنظمة الدولة نفسها لتكون تحت طائلة التجريم في استغلال النفوذ والسلطة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي دعوة صحيحة لكن بعض المفاهيم مغلوطة عنها، جعلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يتصادم مع وثيقة المدينة التي طرحها الرسول الكريم للتعايش بين فئات المجتمع ما بين مسلمين وغيرهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمفاهيم المغلوطة يتصادم مع ما قرره الفقهاء عن زواج المسلم بالمرأة الكتابية مع ممارستها عاداتها وشعائرها الدينية وأعيادها، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق المفاهيم المغلوطة يطعن في عدالة المسلم والمسلمة، ولنا الظاهر المحترم لهم في المكان العام دون تنقيب، كما قبلنا عدالة البوذي والسيخي لأنهما سائقان دون تنقيب أو تحسس وتجسس؟! الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق المفاهيم المغلوطة يتصادم وعصرنا الحالي الذي لا نتخيل فيه أحدا يقاطع السلام الملكي لأنه يرى حرمة الموسيقى، وإن حدثته بأن الأمر يخصه في نفسه ولا يتعداه لغيره، فقد يتذاكى ويكتم غيظه ليُنَفِّسَه في شاب صغير تنكيلا فيجعله عبرة لمن لا يعتبر، لأنه كان يسمع أغنية ما في مكان عام، فأحد التفسيرات المحتملة لما نراه من انتهاكات باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يكون في حقيقته البنيوية تنفيسا ضد الدولة الحديثة ومظاهرها الطبيعية في وجود التلفاز والراديو والصحافة والأندية الأدبية والأندية الرياضية، والفنون، والمهرجانات الشعبية، والاحتفالات الرسمية، هناك مزاج مكبوت ضد واقع يعيشه كثير من الأشخاص شددوا فشدد الله عليهم، يتحول في المجتمعات المتقدمة إلى حراك عبر مؤسسات مجتمع مدني وفق إطار الدولة ومفاهيمها الحديثة، ولكنها عندنا لا تجد متنفسها سوى في تشكلات عقائدية تبحث عن أقصى الفاعلية في مطالب تصادر على الدولة احتكارها للعنف عبر شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على المستوى التنظيمي، وأجهزة الدولة الأمنية هي المخولة فقط باقتحام خصوصيات الناس وفق ضوابط شديدة لا تؤدي إلى نزع الأمن النفسي من دواخل الناس تجاه الدولة نفسها، ولهذا وضع المشرع تنظيما مشددا جدا وضيق الحدود جدا في التفتيش على الجريمة بالمعنى النظامي، فكيف بمن يتربص بالناس على (اللمم) بالمعنى الشرعي فيضخمه زورا ليصنع منه جريمة.
محاولة استعادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق مفاهيم ما قبل الدولة ليس مقبولا تحت أي عنوان، ولو لاحظ المراقب ما يحرص عليه هؤلاء (الصقاعون) (حسب توصيف ابن خلدون) سنجد أنهم يحرصون على تضخيم مسائل (اللمم) بالمعنى الشرعي وتعقيدها اجتماعيا لتصل إلى رتبة الجرائم التي يترتب عليها وفق نظام الدولة الحديثة عقوبات قد تصل إلى السجن لمدة عشر سنوات، مما يتجاوز هدف الدولة من إشاعة الأمن إلى إشاعة الخوف من تسلط الدولة في تجاوز العقوبة عبر ثغرات يستغلها من لا خلاق له في سماحة ولا فضيلة.
آخر عهدي في أن يأخذ صاحب السيارة نساء من على الطريق ليوصلهن إلى أي مكان يريدونه كفعل خير ودون مقابل كان قبل سبعة وثلاثين عاما، وشاهدت هذا وأنا صغير، والآن ووفق مفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تطعن في ذمة الناس ومروءاتهم وتسلب الناس ذممهم رغم أن الرسول الكريم قال: (يجير على أمتي أدناهم)، انتشر التحسس والتجسس وأحيانا التصيد لمحاسبة الناس على (اللمم)، فضاعت مروءتهم وذمتهم، إذ يمزقها معنويا بشكل ممنهج صقاعين كثر تحت باب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، لنرى أنفسنا آمنين على عائلاتنا في بلاد الدنيا دون تطفل أحد، ما لا نشعر به أحيانا في بلدنا، إنه خفر الذمم إذا تفشى بين الناس تحت (دعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، يفقد الناس تلقائيتهم في المروءة ورفعة النفس، ثم نقول: لماذا الشباب بهذا الشكل رغم المواعظ؟!! متناسين أن بيئة الريبة والظن الخائف لا تصنع إنسانية سامية تؤمن بمكارم الأخلاق وتستغفر من اللمم بقدر ما تصنع فحولة حيوانية يتمنى (المستشرفون/ المزايدون على شرف الناس) أن لا تنطفئ ليبنوا عليها ضرورة وجودهم في حماية ما يرونه (فضيلة)، وهو لا يتجاوز في أقصى حالاته مألوف عاداتهم فقط في هجرهم النائية، لنعيد بذلك قراءة الصراع إلى مكوناته الحقيقية من خلال (البعد الديموغرافي) بين مفاهيم البادية ومفاهيم المدينة، لتتم بدونة المدن والقرى عبر أحد أذرع السلطة التنفيذية، بدلا من تمدن البادية، وعلى علماء الاجتماع السياسي النظر لهذه الزاوية وأخذها في الاعتبار كأساسات غير ظاهرة قام عليها (البعد الأيديولوجي) لصراع التيارات الفكرية ما بين السروريين والوطنيين.