الوطن العمانية-
الفقهاء حددوا حقيقة الضرورة وضوابطها في مجال التداوي عموماً، وفي الانتفاع بأعضاء إنسان آخر خصوصاً قياسًا على المضطر للميتة البحث الفقهي في مجال التبرع بالأعضاء لم ينفصل عن النظر المقاصدي، بل عمد إلى توظيف قواعد المقاصد، والترتيب بين المصالح والمفاسد عند التعارض
قراءة ـ علي بن صالح السليمي:
جاءت ندوة تطور العلوم الفقهية في عُمان من خلال عنوانها:(فقه العصر .. مناهج التجديد الديني والفقهي) والتي عقدت خلال الفترة من 15 إلى 18 جمادى الأولى 1436هـ، الموافق 5 إلى 8 ابريل 2015م في نسختها الحادية عشرة من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بتوجيهات سامية من حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
ومن ضمن ما قدم خلال الندوة من بحوث وأوراق عمل كانت لنا هذه القراءة في بحث بعنوان:(التبرع بالأعضاء في المجامع الفقهية) .. للأستاذ الدكتور مصطفى باجو ـ من جامعة غرداية بالجزائر.
ـ التصرف في جسد الإنسان:
وقال الباحث: تعبّر الأحكام المشروعة في حق الإنسان وتصرفه في جسده، عن حقيقة كبرى وهي أن جسد الإنسان ملك لله، لا للعبد، والإجماع حاصل أن الإنسان روحًا وجسدًا لله، وأن حق الله فيه أصيل، وما منحه للعبد فيه من صور الانتفاع هو فيها وكيل، وإذا تقرر حق الله وملكيته لبدن الإنسان وروحه، فإنه لا يملك أحد التصرف في بدنه إلا بإذن من الشرع، وفي حدود ما رسمه الشرع، والضوابط التي تحكم هذا الباب أن (من لا يملك التصرف لا يملك الإذن فيه)، وما جاز بيعه جازت هبته، وما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته، وبناءً عليها فإنه لا يملك أحد أن يتنازل عن حياته أو جزء من بدنه لغيره، أو يمنحه لغيره، سواء أكان معاوضة وبيعاً بثمن، أم تبرعاً بلا مقابل، إلا أن يكون تضحية في سبيل الله، واستشهاداً في الدفاع عن الدين والحرمات. وهي حالات نصت عليها الأدلة الشرعية.
موضحاً بقوله: كما نصت على جواز عفو الإنسان عن ضرر أصاب بدنه، سواء أكان عمدا أم خطأً، رغبة في الحفاظ على العلاقات وفض الخصومات، أما الإذن السابق للضرر فغير مشروع أصلاً، وفي مجال بيع الأعضاء تحديداً، فقد صرح الفقهاء بتحريم بيع الإنسان أو أحد أجزائه، وسواء أكان هذا العضو أساسياً كالقلب والكبد والرئة أم ثانوياً كالجلد والشعر، متجدداً أم غير متجدد، لأنها أجزاء من حقيقة الإنسان، وما ثبت للكل يثبت للجزء من الأحكام.
وقال: واتساقاً مع هذه القاعدة ذهب الحنفية إلى عدم جواز بيع شعر الإنسان، وبيع لبن امرأة إذا حُلب. وحكموا ببطلان هذا البيع إذا وقع، بينما خفف المالكية فأجازوا بيع لبن المرأة لضرورة الرضاع، كما نص الشافعية على أن الحرّ لا يدخل تحت اليد والاستيلاء. ولكنهم قالوا إن الحرّ إذا بيعَ لا يُضمن لأنه ليس بمال، بينما يُضمن تلف العبد لأنه مال، وموقف الظاهرية (أن كلّ ما حرم أكل لحمه فحرامٌ بيعه ولبنه؛ لأنه بعضه ومنسوب إليه .. إلا ألبان النساء فهي حلال)، ويؤكد الإمامية والزيدية حرمة بيع الإنسان وأجزائه بقولهم:(لا يجوز مطلقاً بيع الحر ولو شعراً بعد انفصاله، باع نفسه أو باعه غيره)، وحكموا بالتعزير على من فعل ذلك، ومن الطريف أن بعض الفقهاء بنى القول بمنع بيع أجزاء الإنسان على عدم النفعية، فقال ابن قدامة: (وحرم بيع العضو المقطوع منه لأنه لا نفع فيه)، وهو رأي يعوزه التمحيص، لأن الإذن الشرعي أولى بالاعتبار من النفعية أو عدمها.
مؤكداً هنا بالقول: وقد دافع بعض المعاصرين عن هذا الرأي، مشيراً إلى بقاء نفعية الأعضاء بالاستعانة بالتقنيات الحديثة للحفاظ على العضو سليماً بعد وفاة صاحبه إلى حين زرعه في جسم من يحتاج إليه، ورغم هذه النفعية فهو يرى أن هذا لا يعني جواز البيع عند وجود النفع، واعتبر أن (هذا الفهم مجاف للصواب لأن المحرم مهدر النفع شرعاً، ولا يعتد بنفعه، وإلا فكل ما في الكون من المحرمات فيها نفع، وفيها ضرر، ولكن الشرع أهدر ما فيها من نفع ولم يعتد به رغم وجوده عقلاً وحساً)، وقاس المسألة على الخمر والميسر، اللذين أثبت القرآن منافعهما، ولكنه حرمهما لغلبة الاثم والمفسدة فيهما، وهذا توجيه متكلَّفٌ للرأي وتعليل غير مقنع.
ـ إجارة المنافع والأبدان:
وأشار الباحث بقوله الى ان الفقهاء عالجوا موضوع التبرع بالأعضاء قياساً على الانتفاع ببدن الإنسان، فيما عرف بإجارة المنافع والأبدان، ومعلوم أن للإنسان أن يؤاجر نفسه لغيره، مقابل مبلغ مالي يتفق عليه المتعاقدان، وأدلة جواز الإجارة وفيرة في الكتاب والسنة، بل إن النبي (صلى الله عليه وسلم) حث على الوفاء بها، وقال:(أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)، وفي الحديث القدسي:(قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعط أجره)، ولئن اتفق الفقهاء على جواز أخذ الأجرة على الرضاع لورود النص عليها في القرآن، فقد اختلفوا في حكم بيع لبن المرأة، بين مجيز ومانع.
مبيناً بأن حجة المجيزين أن اللبن مشروب طاهر فجاز بيعه، بينما بنى المانعون على الأصل من حرمة بيع الإنسان الحر، وبيع أجزائه وما نتج عنه. أما اللبن فقد جاز شربه لضرورة الرضاع فقط، والنظر الدقيق في جواز استئجار الظئر يدل على عدم جواز بيع اللبن، لأن المال المدفوع كان مقابل فعل الإرضاع، وليس مقابل لبن الرضاع، وأما سقي اللبن بطريقة معينة، فكان ضرورة لإنقاذ حياة الطفل بهذا الإرضاع، وبعض الفقهاء قاس لبن المرأة على لبن الشاة، وهو قياس غير مسلّم، لما فيه من فوارق كبيرة. إذ إن لبن الشاة مباح للناس جميعا، ولبن المرأة ليس كذلك، لما يترتب عليه من أحكام شرعية بالغة الأهمية، تتعلق بالأنساب والمصافحة والنكاح، وفي الحديث:(يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وقد اتفق الفقهاء أنه لا يجوز استئجار أحد لقلع جزء من بدن الإنسان إلا لضرورة العلاج، وعلى يد طبيب أو خبير ماهر، وبناء على هذا فقد حكموا ببطلان عقد الإجارة إذا كان محل هذا العقد قطعَ عضو صحيح من الإنسان، دون داعٍ من علة أو مرض صيانةً لنفس الإنسان وحفاظاً عليه، ومنعاً للأيدي أن تمتد إليه بغير موجب وإذن من الشارع.
وقالوا: لا يجوز الاستئجار على خلع سنّ صحيحة، بخلاف الوجيعة التي يقرر أهل الخبرة زوال ألمها بالقطع، وشرط الطبيب أن يكون ماهراً، بمعنى أن يكون خطؤه نادراً، وإن لم يكن ماهراً في العلم فيما يظهر، فإن لم يكن كذلك لم يصح العقد، ورجع عليه بما أخذه من أجرة أو غيرها، لأنه أخذها دون موجب مشروع.
ـ الضرورة .. مفهومها وحدودها:
يتحدث الباحث في هذا الجانب بقوله: عمد الاجتهاد الفقهي في موضوع التبرع بالأعضاء إلى الاستفادة من قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، وما تفرع عنها من قواعد، مثل: الضرورة تقدر بقدرها، وإذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق، ولفظ الآية واضح ينص على أن للمضطر في حال الضرورة أن ينال من المحرّم بقدر ما يدفع عنه الضرورة، شريطة الوقوف عند حدودها، دون التجاوز إلى البغي والعدوان.
وكان لزاماً في هذا المجال تحديد الضرورة والتمييز بينها وبين الحاجة، فالمضطر من ألجأته الضرورة إلى تناول المحرم، وإلا وقع في الهلكة وأشرف على الخطر أو فوات النفس. بينما يكون المحتاج دونه بمراتب، ومثله المسافر يرخص له في الفطر للشدة التي تصيبه في السفر، وهي من الممكن تحملها ولو بعسرٍ بالغ.
موضحاً بأن الانتقال من الحرمة إلى الإباحة يشترط فيها أعلى الرتب، أما الانتقال من الإباحة إلى الحرمة فيكفي فيها أيسر الأسباب، ويخرج على قاعدة الضرورة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، ومنها المرض، وفي المرض رخص كثيرة، ومنها التداوي بالنجاسات وبالخمر في قول بعض الفقهاء.
وقال: وحدد الفقهاء حقيقة الضرورة، وضوابطها في مجال التداوي عموماً، وفي الانتفاع بأعضاء إنسان آخر خصوصاً قياسًا على المضطر للميتة، بأن يكون المريض بحاجة ماسة إلى هذا العضو لإصلاح ما وقع له من خلل في وظائف جسده، أو لتفادي ازدياد حاله سوءاً، قد يفضي بها إلى الهلكة، وقد تختلف الأنظار في حكم التداوي بحسب حالات المرضى، وبعضها لا يبلغ مرتبة المضطر لإنقاذ نفسه من الهلكة، ولكن الشيخ ابن عاشور جعل قول الأطباء أن هذا الدواء نافع لإنقاذ الإنسان من هلاك غالب، بمنزلة الأكل للنجاة من الموت، (وعندي أنه إذا وقع قوة ظن الأطباء الثقات بنفع الدواء المحرم من مرض عظيم وتعينه أو غلب ذلك في التجربة فالجواز قياساً على الأكل للمضطر وإلا فلا).
ويتساءل الباحث هنا بقوله: هل يجوز للمضطر أن يأكل ميتة الإنسان؟ فيجيب: اتساقاً مع مبحث الضرورة، يتفرع النقاش إلى مسألة أكل المضطر من ميتة إنسان مثله. وقد قرر الفقهاء أن الأصل فيها المنع، نظرًا لحرمة الآدمي، فيحرم هذا الأكل حين يستوي المضطر والمراد أكل لحمه في العصمة. ثم رخصوا في المهدور دمه، مثل المرتد، والباغي والقاتل والزاني المحصن، ثم يَرِدُ سؤال فرعي: هل يأكل المضطر من جسده للضرورة؟ والجواب: أن فيه اختلاف الفقهاء بين مانعين منه بقاءً على الأصل، وهو حرمة الآدمي، ومجيزين تفريعاً على القول بجواز إتلاف الجزء لاستحياء الكل.
وقال الباحث: والواقع أن هذه حالة افتراضية أو نادرة الوقوع، فضلاً عن كون المضطر غير قادر على أكل بعض جسده، ولا هو بمستسيغ له إن افترضنا قدرته على ذلك، وخلاصة الاجتهاد الفقهي المعاصر أنه يجوز الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت، سواء كان معصوما أو غير معصوم، إحياء للنفس الآدمية ومدًّا لأسباب البقاء لها، شرط ألا توجد ميتة غير الآدمي، مع تحقق الاضطرار، ومع إذن المتبرع أو ورثته، وثمة رأى لا يكتفي بإباحة التبرع بالأعضاء، بل يجنح إلى تشجيعه للتخفيف من حالة الضرورة المتنامية الداعية إلى الاستنجاد بزرع الأعضاء، وأن الضرورة شديدة وملحة للحصول على الأعضاء من متبرعين أحياء، ونحن أمام قضية فقهية اجتماعية في الوقت نفسه. فإنقاذ حياة مريض الكلى يتوقف كلية على وجود المتبرعين الأحياء .. فالأمر لم يعد يقتصر فقط على إجازة التبرع بالكلى .. بل يجب التشجيع على ذلك. معتمدين على تعاليم ديننا الحنيف التي تحث على الإيثار والتكافل الاجتماعي والتعاون والتضحية.
ـ اعتبار مقاصد الشريعة ومآلات الأفعال:
وقال الباحث: ان البحث الفقهي في مجال التبرع بالأعضاء لم ينفصل عن النظر المقاصدي، بل عمد إلى توظيف قواعد المقاصد، والترتيب بين المصالح والمفاسد عند التعارض، ويتجلى البحث هنا في كلية حفظ النفس، وصونها من الضرر والفساد، وذلك وفق القواعد الآتية: درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، ويتحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمها ضرراً بارتكاب أخفهما.
وقال: وقد قرر الفقهاء القول بجواز التبرع بناء على مقاصد الشرع في الحفاظ على النفس، واتخاذ الأسباب لاستبقاء الحي قدر المستطاع، وبخاصة إذا كان المتبرع ميتاً، فلا ضرر عليه في تبرعه، أو كان ما يمنحه المتبرع لا يؤثر على صحته، ولا يشكل خطرا عليه حالاً ولا مستقبلاً، وتتجلى النظرة المقاصدية في كون الانتفاع بعضو الميت لا ينافي تكريم الإنسان، وليس من التمثيل المحرم شرعا في شيء، لأن الأهداف متباينة في الحالين.