الرياض السعودية-
يعد لبس العباءة للمرأة في بلادنا سمة تميزها عن غيرها إذ تعد جزءا لا يتجزأ من شخصيتها ولصيقاً لها في حياتها اليومية، فهي رداء يلازمها منذ الصغر ولباس يسير معها في جميع مراحل حياتها الشخصية والعملية، وكذلك مختلف المناسبات التي تتطلب حضورها، هذا الرداء يتميز بأنه يغطي كامل جسد المرأة مما يظهر حشمتها حيث يخفى جميع معالم جسدها وفي ذلك اتباع للشريعة التي أمرت النساء بالستر.
عند استعراض لبس المرأة المسلمة للعباءة على مر العصور نجد بأنه أمر متبع وقد وعى هذا الجيل كالأجيال التي قبله وهو يرى المرأة تلبس العباءة ذات اللون الأسود مما يجعل الكثيرين يتساءلون لماذا اختير اللون الأسود بالذات، ولعل الإجابة تكمن في أن بداية لبس العباءة جاء امتثالاً لأمر الله تعالى بعد أن نزلت هذه الآية (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما).
عند استعراضنا للبس العباءة بين زمنين نجد أن هناك فرقاً كبيراً في ذلك سواء في طريقة اللبس أو في طريقة خياطتها وما صاحبه من تطور في التفصيل، إلا أنه في النهاية نجد أن لبس العباءة أصل متجذر لا يمكن للمرأة أن تتخلى أو تستغني عنه فقد بات جزءًا من شخصيتها لا يمكنها التعايش من دونه.
تاريخ العباءة
ورد ذكر العباءة للنساء في كثير من العصور ففي العصر الأموي هاهي (ميسون بنت بحدل بن أنيف الكلبية) زوجة الخليفة معاوية بن أبي سفيان وأم ولده يزيد قد أنفت من عيشة القصور التي تحد من تنقلها واختلاطها ببني جنسها في البادية، حيث باتت تعيش في قصر مغلق لا يحوجها إلى لبس العباءة حيث لا ترى أحداً، فقد نقلها معاوية من البادية وأسكنها قصراً في دمشق، وقد سمعها معاوية وهي تنشد هذه الأبيات:
لبيت تخفق الارياح فيه
أحب الي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب الي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة من كسر بيتي
أحب الي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فج
أحب الي من نقر الدفوف
وكلب ينبح الطرّاق دوني
أحب الي من قط أليف
وخرق من بني عمي نحيف
أحب الي من علج عنوف
خشونة عيشي في البدو أشهى
إلى نفسي من العيش الظريف
فما أبغي سوى وطني بديلاً
فحسبي ذاك من وطن شريف
فما كان منه إلا أن حقق لها رغبتها فطلقها وأرجعها إلى أهلها معززة مكرمة، كما كان الخمار ملازماً للعباءة التي تلبسها المرأة ولونه هو لون العباءة أسود وقد ورد في قصة ذلك التاجر الكوفي الذي حضر إلى المدينة في العهد الأموي كي يبيع ما معه من بضاعة فيها الخمار الأسود الذي وجد كساداً حتى شكا ذلك لصديقه الشاعر (الدارمي) الذي اشتُهِرَ بالتغزل بالنساء الجميلات، ولكنه ترك ذلك بعد تقدمه في العمر وأصبح متنقلاً بين مكة والمدينة للعبادة فقال له: لا تهتم بذلك فإني سأنفقها لك حتى تبيعها كلّها. فنظم الدارمي بيتين من الشعر قال فيهما:
قُلْ للمليحةِ في الخِمارِ الأَسودِ
ماذا فَعَلْتِ بناسِكٍ مُتَعبِدِ
قدْ كانَ شَمّرَ للصلاةِ ثيَابَهُ
حتى وَقفْتِ لَهُ بباب المَسجدِ
فشاع الخبر في المدينة أنّ (الدارمي) رجع عن تنسكه وزهده وعشق صاحبة الخمار الأسود، فلم تبق امرأةٌ إلا واشترت من التاجر لها خماراً أسود.
مسمى للمرأة والرجل
كان مسمى ( العباءة ) فيما مضى يطلق على العباءة التي تلبسها المرأة ( والمشلح ) الذي كان يلبسه الرجل أيضاً إلا أن الاختلاف في طريقة اللبس والخامة التي تصنع منها العباءة وكذلك الألوان فعباءة المرأة تلبس على الرأس إلى أخمص القدم بحيث تستر جميع البدن وتكاد أن تمس الأرض عند المشي، أما عباءة الرجل فإنها تلبس على الأكتاف إلى الكعبين، كما تختلف عباءة المرأة أيضاً بأنها تصنع من الحرير أو القماش الناعم بعكس عباءة الرجل التي كانت تصنع من الصوف غالباً وتتميز بخشونتها، وأخيراً فان لون عباءة المرأة واحد وهو اللون الأسود أما الرجل فعباءته يختارها من أي الألوان شاء ، وكدليل على أن الناس منذ زمن قريب كانوا يطلقون على ما يلبسه الرجل من ( مشالح ) عباءة هو قولهم في المثل العامي الدارج ( ما في العباة رجال ) أي أن هذا الرجل الذي يلبس ( المشلح ) الذي يعني تمام الشخصية لمن يلبسه لا يتسم بعلامات الرجولة من شهامة أو كرم أو غيرها من الأفعال الحميدة التي تدل على صاحب الوجاهة، وقد كان جل الناس قبل نصف قرن يلبسون ( العباءة ) أثناء خروجهم من المنزل ونادراً ما تجد من الرجال من لا يلبسه فقد كان سمة تلازم الرجال خصوصاً كبار السن منهم ولكنها الآن باتت عادة كادت أن تتلاشى حيث اقتصر لبسه على كبار المسؤولين أو في المناسبات الكبيرة كالأعياد أو الزواجات أو أثناء تأدية كبار السن لصلاة الجمعة، ومع تقدم الوقت وفي عصرنا الحاضر بات الجميع يطلقون على ما يلبس الرجل من عباءة اسم ( مشلح ) أو ( بشت ) وصار مسمى ( العباءة ) أو ( العباية ) خاص بما تلبسه النساء.
قماش العباءة
لم تكن النساء فيما مضى يهتممن بقماش العباءة وذلك لقلة ذات اليد قديماً اذ كان الهدف هو الستر والاحتشام لذا فقد كان قماش العباءات خشناً وغليظاً ، ومع مرور الوقت وتحسن الحالة المعيشية بدأت ترد إلى البلاد العديد من العباءات ذات القماش الجيد والسميك الذي يمتاز بثقله ولكن لونه الأسود كان قاتماً وغير صاف اذ يخالطه شيء من اللون الاحمر، وبعد ذلك تدفقت إلى الأسواق عباءات ذات أقمشة جذابة ذات ألوان شديدة السواد ( نقية السواد ) وصارت ذات ملمس أنعم، وأخيراً بات يرد قماش من الحرير، وجميع العباءات كانت تستورد وتصل جاهزة بقياسات مختلفة بحيث تقوم كل امرأة بتقصير العباءة أو تضييقها عن طريق الذهاب بها إلى الخياطة في منزلها أو تقوم هي بهذا العمل ان كانت تحسن الخياطة وتملك ( مكينة ) خياطة في منزلها، وفي وقتنا الحاضر صارت العباءات تخاط ويجرى تفصيلها في مشاغل خاصة بعد استيراد القماش الخام ويتم تحديد سعر كل عباءة بناءً على نوعية القماش وطول العباءة وطريقة تفصيلها.
سن العاشرة
عادة ما تبدأ الأمهات تعليم بناتهن لبس العباءة منذ الصغر وقبل أن تحتجب عن الرجال، وغالب الأمهات يبدأن في إلباس بناتهن العباءة منذ سن العاشرة ، بحيث لا يسمح للبنت الصغيرة الخروج من المنزل للعب مع أقرانها أو للذهاب مع والدتها إلى الأهل والجيران أو المدرسة إلا بعد لبس العباءة ، وكثيراً ما يصاحب ارتداء البنت الصغيرة للعباءة وتسترها صدمة لأبناء الجيران أو الحي والاقارب بحيث تنقطع الصلة بالبنت ويصعب التواصل معها وذلك لاحتجابها خلف الابواب في البيت وخلف العباءة عند الخروج، وقد قال الشاعر محمد النفيعي مصوراً ذلك الوضع الذي عاشه ككثيرين أمثاله في قصيدة منها :
عهدي بها من قبل تلبس عباية
وأنا بعد قبل البس شماغ وعقال
طفلين نتهجّى حروف البداية
الله يا محلا سواليف الاطفال
كانت لنا في كل شارع حكاية
وكنّا نقول علوم ما هيب تنقال
وفي البدايات تجد البنت صعوبة بالغة في طريقة اللبس والتأقلم مع هذه العباءة ولكن بمرور الأيام تعتاد البنت على ذلك وتتقن طريقة اللبس وسرعان ما تتعود على ذلك وتتأقلم عليه، وان كان بعض البنات الصغيرات يجدن الحرية في لبس العباءة التي لا تستر سائر البدن بل تكون على الكتف إلى أخمص القدم بينما ترتدي الحجاب الذي يظهر وجهها وتستمر على ذلك إلى بلوغ سن الثانية عشرة، ولكن إدارات مدارس البنات تطلب من الطالبات في بداية الصف الرابع الابتدائي وهو سن العاشرة الحضور بالعباءة وتبدأ في مساءلة الطالبة عند نسيان ذلك أو مخالفته من أجل تعويد الطالبات الصغيرات على اللبس المحتشم منذ الصغر.
طريقة اللبس
عندما نطالع صورة قديمة لبعض المشاهد اليومية في عدد من المدن والقرى منذ أكثر من خمسين عاماً تجد أن لبس المرأة ل ( العباءة ) يختلف على ما هو عليه الحال الآن ففي السابق كانت موضة لبس العباءة من أعلى الرأس إلى منتصف الجسم بحيث تقوم المرأة بلبس العباءة إلى أن تتدلى على الأرض ومن ثم تقوم بلف طرفي العباءة على ساعديها إلى أن ترتفع إلى منتصف الجسم وتضم طرفيها إلى اليد اليسرى وتكاد تكون تلك الطريقة السائدة آنذاك كالموضة خصوصاً بين كبيرات السن، وبعد ذلك تغير الحال منذ عقود قريبة وصارت العباءة تغطي جميع جسد المرأة وهو الحال الذي نراها عليه في أيامنا هذه ، بل ان العديد من النساء وخصوصاً من كبيرات السن بتن يرتدين عباءة مغلقة كالثوب بحيث يكون لها مدخل للرأس والأيدي فقط ومقفلة من جميع الجوانب وتلبس كالثوب وهي بذلك تكون سهلة اللبس والخلع ولا تختلف عن بقية العباءات بل هي مثلهن ساترة.
فخر واعتزاز
لا زالت العباءة مصدر فخر واعتزاز للمرأة المسلمة خصوصاً في بلادنا التي باتت جزءا من هويتها وعلامة الستر والحشمة، ومحل تقدير واحترام لمن يراها فالمرأة التي ترتدي العباءة المحتشمة مصدر فخر لوليها من زوج وأب وأخ وقريب فهي تعني الحشمة والعفاف، وحتى المرأة الأجنبية التي تزور المملكة أو تقيم فيها نجدها تلتزم بالتعليمات والتي منها ضرورة ارتداء العباءة الذي هو زي معتمد للمرأة في البلاد، وقد تغنى الكثير من الشعراء في حشمة المرأة السعودية التي ترتدي العباءة.
موضة
مرت العباءة لدينا بتحولات كبيرة مثلها مثل أي نوع من الملبوسات، فالعباءة السعودية كانت لها خصوصيتها وطبيعتها التي ميزتها عن بقية أنواع العباءات، فظهر من النساء من تعمد إلى تفصل عباءة خاصة للأعراس والمناسبات بها من التطريز الشيء الكثير والمكلف وعباءة أخرى عادية لبقية الأيام ، كما تمكنت الموضة من العباءة تمكنًا كبيرًا وخرجت العباءة عن قالبها المألوف بموديلات وألوان وقصات غريبة مريبة تدعو للدهشة والاستغراب وظهرت أنواع جديدة مثل عباءة ( الكتف ) و( الجناح ) و( الهيلة ) و( المزوية ) و( المبرج ) و( المعصم ) و( المخصرة )، مما ادى إلى وجود لجان مختصة لعمل حملات ميدانية موسعة على محال بيع وتفصيل العباءات لرصد تلك المخالفات والتعامل معها، الأمر الذي يستدعي تدخل الآباء والأزواج في الحد من هذه الظاهرة.