دعوة » مواقف

لا مستقبل أمام الإسلام الحركي في الرياض..! (1)

في 2016/03/19

علي العميم- عكاظ السعودية-

في نهار يوم الجمعة قبل ستة وسبعين عاما وستة أشهر وعشرة أيام، وقبيل مغادرة عضوي الجماعة الإسلامية بباكستان مسعود عالم الندوي وتلميذه محمد عاصم الحداد الرياض إلى مكة، مكثا في الغرفة المخصصة لهما في دار الضيافة الأجنبية يتحدثان، لأنه لم يكونا على موعد بلقاء أحد في ذلك اليوم، كما لم تكن لديهما حاجة للخروج إلى السوق. كان التلميذ مهموما محزونا، فسأل أستاذه: هل يمكن أن تنجح الدعوة هنا؟

قال الأستاذ: يا أخي يبدو الأمر صعبا للغاية.

فقال التلميذ: هذا ما أظنه أيضا...

قال الأستاذ: الكتب يمكن أن تنتشر هنا، وأشعر أن عليها طلبا، ويمكن أن يكون لها تأثير، فتتولد من خلالها حركة للدعوة.

فقال التلميذ: الكتب ستنتشر بسبب اسمك، فالعلماء مسرورون منك، بسبب كتابك عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ولن يضرهم انتشار كتبك هنا.

الدعوة هنا المقصود بها الإسلام الحركي (أو ما يسمى بالأصولية الإسلامية) التي بدأ أبو الأعلى المودودي في صياغة أسسها منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي، وأتم تقريبا صياغتها قبيل تأسيسه للجماعة الإسلامية عام 1941 بفترة وجيزة. وقد كان شاركه في الريادة بإنشاء إسلام أصولي مغر ومعصرن ومؤثر، محمد أسد (أوليبولدفايس).

في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق) الذى كتبه باللغة الإنجليزية وطبعه في دار نشر إسلامية بدلهي عام 1934، ومحمد أسد كان مشدودا للإسلام الهندي وزاهدا في الإسلام العربي. كان مشدودا للإسلام الهندي؛ لأن الهند كانت في القرون المتأخرة إلى منتصف القرن الماضي هي مركز الثقل في العلوم الدينية والثقافة الإسلامية، وكانت إيران وتركيا ومصر ضعيفة وهزيلة في هذا المجال. ولأنه في هذا البلد كانت تتوفر أصولية إسلامية بازغة مدعومة بثقافة ومعرفة. وقد كان زاهدا في الإسلام العربي لغلبة المسحة الليبرالية عليه المنفتحة على الغرب، في بلد ناهض ومنتج للأدب والثقافة مثل مصر.

الإسلام الحركي أو الأصولية الإسلامية التي دعا إليها المودودي، ونظّر لها بدأب واقتدار وتمكن، تختلف عن الإسلام الممارس وعن الإسلام التقليدي -كما يمثله إسلام العلماء-، ويختلف عن الإسلام الإصلاحي التحديثي الذي أرسى قواعده سيد أحمد خان في الهند وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في مصر والعالم العربي.

في محادثة التلميذ والأستاذ يتفقان على أن نجاح التبشير بالإسلام الجديد في الرياض، أمر في غاية الصعوبة. ومع أن الأستاذ متفق مع تلميذه على أنهما في زيارتهما لها لم يجدا ما يشعرهما بأن ثمة مستقبلا سيكون للإسلام الحركي في هذا المكان إلا أنه كان متعلقا بحبل الأمل، فرأى أن كتب المودودي يمكن لها أن تنتشر فيه. ولقد وافقه تلميذه على رأيه وأرفق موافقته بتحفظ كان مغزاه: ما نفع انتشار كتب المودودي في هذا المكان من دون أن يصحبها إقبال على الإيمان بدعوته؟!

كان مسعود الندوي سجل في يومياته عن اليوم الذي سبق اليوم الذي جرت فيه تلك المحادثة، ملحوظة هي: «أن الكتب منتشرة هنا ومقروءة لدى شريحة عريضة من الناس، وقد وجدنا عددا لا بأس به هنا يطالع كتبنا، ولكن أملنا ضعيف في أن تجد دعوتنا صداها هنا، لأسباب عديدة يطول شرحها».

فهو في هذه الملحوظة يكاد يتفق مع التحفظ الذي أبداه تلميذه، لكنه يختلف عنه في أنه كان يغلّب الرجاء على القنوط.

من واقع يومياته التي سجلها عن زيارته للرياض، نعرف أن الذين قرأوا كتب المودودي التي كان يحملها معه هو وتلميذه، ثلاثة أشخاص: الشاعر خالد الفرج. وكان قد قدم من الخبر إلى الرياض ليسافر في معية الملك عبدالعزيز آل سعود إلى الحج. الشاعر خالد الفرج -كما أخبرنا مسعود- «يعرف قليلا من الأردية، وهو على معرفة بالقادة السياسيين في الهند، كان يسأل عن ظفر علي خان (أديب وصحافي هندي) بصفة خاصة، ويعرف الشاعر محمد إقبال أيضا، وكان قد ترجم قليلا من أشعاره». في لقائه به عرفه «على الجماعة الإسلامية ومنهج الدعوة لديها، وذلك بتفصيل كامل، والرجل له اهتمامات بالأمور السياسية، ولهذا فقد فهم وضعنا بسرعة، فاستعار مطبوعتين لساعتين أو ثلاث، وأخذ يقرأها في حجرته».

الشخص الثاني هو -كما قال- «مثقف من الشارقة كان يعرف كاتب السطور، من خلال مجلة الفتح (هي مجلة مصرية كان صاحبها ورئيس تحريرها السلفي السوري محب الدين الخطيب)، وقد جاء للحصول على مطبوعاتنا من حسن الشنقيطي (هذا الرجل أعلمنا مسعود أنه من مراكش وكانت لديه مكتبة لبيع الكتب، وهي أيضا للمطالعة. ويعمل مدرسا في إحدى المدارس الابتدائية التي كان عبدالعزيز بن باز قاضي الخرج، يدرس فيها أيضا)، كان مسرورا جدا، ويثني على مطبوعاتنا، وكان يقيم في دار الضيافة الداخلية، وهو صديق لحسن الشنقيطي، ويعمل مدرسا في إحدى المدارس الابتدائية المحلية».

الشخص الثالث كان الشيخ عبدالعزيز بن باز. أول لقاء بين مسعود الندوي وابن باز ومعرفة الأول باسم الثاني قبل أن يقدم إلى الرياض ومعرفة الثاني باسم المودودي حين التقى الأول، تستحق تمهيدا ووقفة أطول.

حين قدم مسعود الندوي وتلميذه محمد عاصم الحداد إلى الرياض في أول سبتمبر عام 1949، عرف في أثناء زيارته لهذه المدينة أن المشايخ والمتعلمين لا يعلمون عن الجماعة الإسلامية وعن المودودي شيئا، ولا يعرفون حتى اسميهما. ولم يسمعوا باسمه هو، رغم أنه كان يكتب باللغة العربية في مجلة (الفتح) المناصرة للدعوة السلفية عموما ومناصرة لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب.

تعرف مسعود الندوي على اسم ابن باز حينما كان في بغداد. أي قبل شهرين من وصوله الرياض. وتعرف على اسمه يوم الأربعاء، 23 يونيو 1949، حين شاهد العدد الجديد من مجلة (الهدي النبوي ، 4 رجب 1386هـ) -وهي مجلة مصرية سلفية- عند العالم المغربي تقي الدين الهلالي، فيها مقال عن جواز التصوير (الرسم) والتصوير الفوتوغرافي، يقول أنه غير جائز. هذا المقال كتبه ابن باز. وكانت هذه الفتوى قد أعجبته.

في اليوم الثالث من زيارته إلى الرياض كان قد رُتب له موعد ليقوم بزيارة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بعد صلاة المغرب. حضر إلى بيته في معية حسن الشنقيطي، وكان من بين الضيوف الذين توافدوا على بيته ابن باز، وهو أحد تلاميذ الشيخ.

سأله الشيخ ابن إبراهيم عن حال عبدالحميد الخطيب -الوزير المفوض للسعودية في باكستان- وعن حال جماعة أهل الحديث، وعن حال الدعوة هناك، وأخذ مسعود يجيب عن الأسئلة، وحين امتدح عبدالحميد الخطيب وأثنى عليه، قال عبدالعزيز بن باز: إنه يسرنا سماع نشاط وجهود عبدالحميد الخطيب، لكنه طبع على إمساكية رمضان صورة للسلطان وولي العهد، وهذا غير طيب؛ لأنه يعني تقديس الصور في المستقبل.

مسعود الندوي -كما قلنا- كان قد اطلع على مقال الشيخ ابن باز عن حرمة التصوير في مجلة (الهدي النبوي) فأثنى على المقال، ولم ينتبه ابن باز، فلفت الشيخ ابن إبراهيم نظره إلى هذا قائلا: عبدالعزيز! مسعود يثني على مقالك.

سر الشيخ عبدالعزيز ودعا لمسعود، «ثم أثنى الشيخ عبدالعزيز على كتاب المودودي النظرية السياسية: وسأل عن أحوال الشيخ المودودي، واعترض على قول المودودي في الآية الكريمة: (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) بأن معنى الحديد هنا القوة السياسية (بالأردية سياسي قوت) ثم قال: يمكن أن يكون الأصل قوة أساسية (بالأردية أساسي قوت) ثم جاءت في الترجمة قوة سياسية.

قال مسعود: لا.. في الأصل أيضا قوة سياسية، والمترجم التزم بالأصل.

فقال ابن باز: حسنا هذا أمر بسيط، ولا أثر له على الكتاب الأصلي.

تحيّر مسعود «كيف وصله كتابنا هذا؟ فقد أعطينا مجموعة واحدة لولي العهد (ولي العهد آنذاك الأمير سعود بن عبدالعزيز) وأخرى للشيخ حسن الشنقيطي، وهنا في المجلس قدمنا مجموعة إلى الشيخ محمد ابن إبراهيم، وعرفنا فيما بعد أن ولي العهد أعطى المطبوعات للشيخ عمر بن حسن (هو عمر بن حسن آل الشيخ رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقتها)، وأن الشيخ عبدالعزيز أخذها من الشيخ عمر».

نستخلص من هذا التمهيد ومن هذه الوقفة الطويلة أن ابن باز هو الشخص الوحيد من بين مشايخ وعلماء نجد الذي كان قرأ في كتب المودودي المترجمة إلى العربية في تلك الفترة والتي حملها معهما مسعود وعاصم الحداد مع مطبوعات أخرى للجماعة الإسلامية بباكستان في رحلتهما إلى العراق والسعودية، أما الآخرون، فلقد كانوا غير مبالين وغير مهتمين بقراءتها. وبمناسبة ذكر هذه المزية في ابن باز، أشير إلى أنه كان الوحيد من مشايخ نجد الذين رأيت لهم كتابات في المجلات الدينية خارج السعودية. فإضافة إلى المجلة المذكورة سابقا، رأيت له وأنا أتصفح سريعا في مجلدات أعداد مجلة (منبر الإسلام) -التي تصدر عن المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية المصري- مقالا في ستينيات القرن الماضي أو ربما كان في أواخر خمسينياته. ورأيت له مساهمات ينشرها في مجلة (الشهاب) اللبنانية الإخوانية في أول سبعينيات القرن الماضي. كذلك كان يقدم إسهامات في مجلة (المجتمع) الكويتية الإخوانية بين فترة وأخرى منذ نشأتها.