دعوة » مواقف

ملاحظات على كتاب «الوهابية» لخالد الدخيل

في 2016/03/21

ياسين الحاج صالح، القدس العربي-

بحكم موقعها في سلسلة أنساب السلفية الجهادية من جهة، ولكونها الأيديولوجية المشرعة للحكم السعودي، تحظى دراسة الوهابية بأهمية متزايدة اليوم. وحين تقع يد المرء على كتاب ضخم عن الوهابية (الوهابية، من الشرك إلى تصدع القبيلة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2014)، من تأليف الكاتب السعودي، خالد الدخيل، يشعر بأنه وقع على المدخل الأنسب لسد حاجته إلى معرفة أفضل بهذا المذهب. فهل يستجيب كتاب من 560 صفحة لهذا التحدي؟ 

أطروحة الدخيل الأساسية هي أن الوهابية ولدت في إطار بروز ظاهرة المدن المستقلة في نجد، وهي مدن وفرت إطارا لتلاقي أناس من قبائل متعددة، ولصعود الأسرة أو العائلة على حساب القبيلة، وكذلك لظهور الملكية الخاصة للأرض. ويبدو أن ذلك رفع الطلب على الحاجة إلى دولة، وهو ما عرضته الوهابية عبر التحالف بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأمير الدرعية في حينه محمد بن سعود، بعد محاولة فاشلة من الشيخ مع أمير مدينة العيينة. 

مفهوم التوحيد الذي هو محور أساسي في فكر الشيخ هو في الواقع توحيد سياسي، وإن وعى ذاته بالتقابل مع الشرك، الشرك الذي يقول المؤلف إنه لم يكن له أثر تقريبا في نجد. لكن الوجود القوي لمفهوم الشرك في كتابات الشيخ يحيل إلى تناثر «المدن المستقلة»، وواقع عدم الاستقرار السياسي في المنطقة، والحاجة إلى إطار موحد جامع، يستعيد بصورة ما النموذج الإسلامي الأصلي. 

لا تفسير دينيا، يلح خالد الدخيل، لظهور الوهابية، وهو يقرر ويكرر أن التفسير اجتماعي وسياسي، يتصل بتصدع القبيلة وصعود العائلة وأنماط جديدة من الاستيطان، وظهور المدن المستقلة. يبدو هذا مثيرا بالفعل، وكان يمكن أن يكون أكثر إثارة لو كان الكاتب قد عرض أطروحته بشكل أحسن تبويبا وتنظيما.

يستغرب القارئ أنه لا يجد شيئا عن حياة محمد بن عبد الوهاب والبيئة التي نشأ فيها، وشيئا عن تجارب فتوته وشبابه، وعن بداية دعوته.

أول ما نعرفه عن الرجل هو «اتفاق الدرعية» الناجح بينه وبين محمد بن سعود، وقد تلا اتفاقا آل إلى الفشل مع أمير غيره. يتاح لنا أن نعرف على نحو عارض تماما أن والد بن عبد الوهاب كان قاضيا يتقاضى مالا على قضائه بين الناس، وأن ابنه اعترض على ذلك. لكن هذه واقعة كانت تستحق أن تدرج في مكانها من عرض حياة الشيخ وبيئته العائلية وتجاربه ضمنها، وانفلاته من السلطة الأبوية في بيئة تحوز سلطة الأب فيها مكانة مميزة. نعرف على نحو عارض أيضا أن سليمان شقيق بن عبد الوهاب رد على دعوة أخيه بكتاب، لكن هنا أيضا كنا بحاجة إلى معرفة أفضل بملابسات العلاقة بين الأخوين، وضروب المقاومة التي واجهتها الدعوة الوهابية بدءا من محيطها المباشر. 

ومستغرب أكثر من ذلك أننا لا نجد في كتاب عن الوهابية عرضا منظما لدعوة بن عبد الوهاب وتطور أفكاره، وما إذا كان حصل لها تغير بين مرحلة الدعوة ومرحلة «الدولة». ولا يصح في رأيي تقدير أن الدخيل افترض أن تعاليم الشيخ المؤسس معروفة، ففي كتاب بحجم كتابه لا يستغنى عن فصل من 30 أو 40 صفحة يستعرض ظهور هذه التعاليم وتطورها ومراحلها، إن وجدت، وتحولاتها. الإحالات المتكررة إلى مفهوم التوحيد عند بن عبد الوهاب، وتمييزه بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلوهية، ثم توحيد الأسماء والصفات، لا يغني عن عرض أكثر استيفاء وتنظيما.

فلنتصور أننا نقرأ كتابا ضخما عن الماركسية لا يكاد يقول شيا عن أفكار ماركس وتطورها، ولا عن البيئة التي ظهر فيها ومصادر تعلمه ومسارات حياته. وما يصح بخصوص الماركسية يصح أكثر على الوهابية، المدروسة أقل بكثير، والمعروفة تاليا أقل بكثير. 

لكن ما تبدو لي أنها نقطة الضعف الأساسية في كتاب الدخيل تتصل بما يقول عن ظاهرة «المدن المستقلة». أحيانا يتكلم الرجل على بلدات، لكن عبارة المدن المستقلة لا تتكرر كثيرا جدا فقط، وإنما هي مرتبطة بأطروحة الكتاب الرئيسية، الأطروحة الخاصة بتصدع القبيلة. يتكلم الكاتب مرارا على العيينة والدرعية وحريملا والرياض وغيرها، لكننا لم نعلم أبدا كم يبلغ سكان أي من هذه «المدن»، وما إذا كان سكانها مستقرون فيها على الدوام، وما هي المرافق العامة فيها غير المسجد (مسجد واحد أو أكثر؟)، وعلى ماذا تعتمد في معيشتها، وما هي علاقتها بنمط حياة البداوة، وبالقبيلة التي يقول المؤلف إنها تحولت إلى أيديولوجية، لكن فعالة. 

نعرف من كتاب الدخيل أن محمد بن سعود كان له «قانون» (أي ضريبة) على سكان الدرعية، وأنه اشترط على الشيخ ألا يعترض على ذلك، فمن هم «المكلفون الضريبيون» يا ترى؟ وكيف يجري تحصيل الضرائب؟ ومن أي دخول للسكان؟ وهل هناك أي مؤسسات تعليمية؟ وهل يمكن تكوين فكرة عن نسبة المتعلمين؟ وما هو وضع النساء في هذا المدن؟

يقول المؤلف إن بعضهن كن يعملن وهن منقبات في محلات تجارية، يبعن البيض والصابون الشامي والمسامير وحاجيات منزلية… كان يستحق الأمر معرفة شيء عن التبدلات الاقتصادية لهذه «المدن المستقلة» مع محيطها القريب والأبعد. 

يغيب عن الكتاب أيضا تطور الوهابية بعد «اتفاق الدرعية»، وما إذا كانت له انعكاسات فكرية. ووفق النسق المألوف في الكتاب نجد إشارات متناثرة للأمر، لكنها بدورها ترد عرضا. وأخير، بما أن الوهابية مؤسسة مستمرة حتى أيامنا هذه، فقد كان الأمر يستحق الكلام عما بعد سقوط الدولة السعودية الأولى، وانهيار الثانية، وصولا إلى الدولة السعودية الثالثة، القائمة اليوم. يستحق أيضا صفحة أو صفحتين عن العلاقة بين الأدوار الحالية للوهابية وتعاليم الشيخ المؤسس، وموقع الدولة السعودية في هذه العلاقة.