عبير العلي- الوطن السعودية-
العداء المستمر للفنون، في المدرسة والشارع والمنزل والمناشط الاجتماعية والثقافية، يخلق الاضطراب في حياة الشباب ليظهروا بشخصيات تغلب عليها الازدواجية
المشهد الأول:
في أسبوع الموهبة الذي تقيمه وزارة التعليم كل عام، تقدم الطالبات بخجل بعضا مما لديهن من مواهب التي يغلب عليها الأعمال الفنية واليدوية، خاصة الرسم. ويحتفى بهن بطرائق بسيطة كنشر رسوماتهن في معرض مصغر بالمدرسة أو على أحد الجدران فيها، وربما اجتهد البعض قليلا وأوصلها إلى قنوات إعلامية. في أحد ممرات المدرسة وضعت مسؤولة الموهوبات لوحا ورسومات لعدة طالبات موهوبات في الرسم، ثلاث منها لإحدى الطالبات التي تبرع في رسم الأشخاص –البورتريه-، وكعادة الرسامين اختارت شخصيات عامة لمشاهير من الفنانين كانت إحداهن السيدة فيروز وكتبت بجوارها مقطعا من أحد أغانيها: "بعدك على بالي". اجتماع الثلاثي (فيروز– مقطعا من أغنية– رسم ذوات أرواح) استدعى تدخلا من بعض المعلمات لإنكار هذا "المنكر" في أحد الاجتماعات المدرسية الدورية، خاصة أن الرسومات الأخرى لفنانات أخريات، واعتبرنه خطأ فادحا لا ينبغي تجاهله أو تكراره مستقبلا، بل وحتى أنه يجب أن تزال اللوحات التي وضعت وتحمل صورا "لذوات أرواح" لا تتفق مع توجهاتهن، وهذا ما أكدته الإدارة بأنها ستفعله تطييبا لخواطرهن وتم "تمزيقها" بالفعل.
المشهد الثاني:
في بداية مارس من كل عام تقيم وزارة الثقافة والإعلام معرضا للكتاب في العاصمة الرياض تمتد فعالياته لـ10 أيام وتصاحبه برامج ثقافية مرافقة. يجتهد كل عام المنظمون على التنويع في المحاضرات والندوات وورش العمل المصاحبة له، وقد كان من حظ السينما التي لا حظ لعشاقها من وجود لها في السعودية أن تكون ضمن الفعاليات التي احتشدت لها أعداد كبيرة من المهتمين لمشاهدة بعض الأعمال السينمائية القصيرة لمخرجين سعوديين شباب في آخر أيام معرض الكتاب الذي انتهى السبت الماضي. و"بخصوصية" اعتدنا عليها فإن العرض ألغي بعضه، والبعض الآخر تم عرضه دون الأصوات الموسيقية المرافقة له، لأن بعض الحضور اعترضوا على الموسيقى المصاحبة للتصوير، وقوبل اعتراضهم بالتهدئة والخضوع لطلبهم. هؤلاء الحضور المعترضون على سير العرض السينمائي المقتطع من الممنوع والمحرم في فعالية رسمية ليسوا بالطبع مهتمين بصناعة السينما ولا نقادا فنيين أو حتى فضوليين اتجهوا إلى المسرح للمشاهدة والاطلاع، بل هم "محتسبون" يؤمنون أن هذا واجبهم في إثبات ما يعتقدونه ولو تجاوزا به النظام. هم الذين خلال هذه الأيام العشرة –وخارجها أيضا- من يكرر نفس المشهد في الزوايا والممرات والأركان لينهروا هذه ويخطئوا ذاك دون وجه حق، هم أنفسهم الذين لا يجدون في أنفسهم حرجا من التدخل في شؤون الآخرين، أفرادا أو قطاعات، لإثبات أنهم فوق الجميع وأن ما يرونه هو فقط ما ينبغي أن يُرى، متجاوزين حريات الآخرين وكمال إرادتهم وحقهم في الاختيار. وفي المقابل يعلمون ألا أحد سوف يمنعهم من هذه الفوضى التي يثيرونها ومن التحكم في ما تريده شريحة كبيرة من المجتمع لأنها لم تصل إلى مقاييس رضاهم المستندة على أعراف اجتماعية ضاربة في الجهل والرجعية ألبسوها ثياب الدين ومسحوا وجهها باسمه.
وزارتا التعليم والثقافة والإعلام هما من أهم الوزارات التي يعوّل عليها كثيرا في رفع الوعي الاجتماعي وتطور الأفراد، ومن خلالهما يتم تكريس القيم الدينية والوطنية ومكافحة التطرف الذي يقود إلى الإرهاب الذي اكتوت بلادنا بناره كثيرا منذ أيام جهيمان حتى آخر رصاصة أطلقت على صدر الوطن غيلة، لأنه يحدث تحت عباءتهما مثل هذه المشاهد التي تقصي الآخر وترفض التعددية وتحارب كل ما من شأنه أن يلطف النفس البشرية ويرفع الإحساس بالأشياء ويجعلنا نسير في ركب المدنية والتحضر مع بقية العالم، مشاهد تمر سريعا دون اتخاذ موقف صارم أو إلزام واضح بالأنظمة التي ينبغي أن تحمي الجميع.
العداء المستمر للفنون بكل أنواعها بشكل معلن أو خفي، في المدرسة والشارع والمنزل والمناشط الاجتماعية والثقافية المختلفة، وإشاعة كراهيتها في نفوس النشء دون أن تقوم على أسباب شرعية لا تخلو من الاختلاف والقطعية في الحكم، يخلق الاضطراب في حياة الشباب ويخلق منهم شخصيات منفصلة عن الواقع وبعيدة عن تذوق الجمال الذي يهذب السلوك ويقومه، بل قد يقودهم للظهور بشخصيات يغلب عليها الازدواجية والتخبط فيما يلقن خلف الأسوار وما يعيشه الفرد في الواقع، وفيما يريده ويرغب به ويبحث عنه وهو لا يخالف دينا ولا فطرة، وبين ما يحارب علنا أمام المسؤولين ويعجزون عن حمايته وتوفيره له ومن أبسطها السينما والمسارح والحفلات الموسيقية التي يلهث للبحث عنها خارج الحدود.
الجيل في هذا الوقت الراكض نحو التسارع والتطور والتنمية يحتاج إلى أن يتم احتواؤه أكثر، وتخليصه من العقد القديمة التي تخلق أشخاصا غير أسوياء يكونون عبئا على أنفسهم وأسرهم وأوطانهم، والحل والعقد يبدأ بفرض قوانين تحمي التعددية الفكرية في المجتمع وتمنع الاعتداء على حريات الآخرين، ولو كانت رسمة لطفلة مراهقة انتشت بإكمالها وختمتها بحب لتتفاجأ لاحقا بأن أعداء الجمال والمحبة جعلوها نثارا منسيا!