دعوة » مواقف

مراحل نمو إمام مسجد من خائف إلى مستبد

في 2016/04/11

مجاهد عبدالمتعالي- الوطن السعودية-    

إمامة المسجد قضية إشكالية تحتكر الفعل الاجتماعي وتقصي بالوعيد من يتعدى على سلطتها وفاعليتها، احتاجت معها وزارة الشؤون الإسلامية إلى ضبط وربط، وصل إلى الفصل لبعض الأئمة

كيف أدافع عن الإسلام؟ دافع عن الإسلام بأن تكون قدوة، وكيف أكون قدوة وأنا لا أريد أن تكون معي لحية؟ ولا أريد لبس الثوب القصير، وأحب لبس العقال؟! فتدرك أن المشكلة هنا في مفهوم القدوة الذي تشكل في أذهان كثير منطلقا من تلك الحكاية التي بدأت معهم منذ تكوينهم الأول في طفولتهم، فالطفل يرى والده الأستاذ التربوي، أو والده الطبيب الجراح، أو المهندس، أو المحامي، أو الأستاذ الأكاديمي، أو عسكريا، أو تاجرا، يرى هؤلاء وأبوه أحدهم يتجهون إلى الصلاة يوم الجمعة، والأطفال يرافقون آباءهم على تنوع مهنهم ومراتبهم ومكاسبهم في الحياة، كل هؤلاء معهم أطفالهم يشاهدون (إمام المسجد) الذي لم يتخط عتبة العقد الثاني من عمره، وهو يخطب في الناس من على المنبر، بصوت أجش مليء بالأمر والنهي، ينظر الطفل في والده وهو مطأطئ الرأس ولا يدرك من هذا المنظر سوى أن (إمام المسجد) صاحب هذه الهيئة، هو الحاكم بأمر الله، وينشأ على ذلك.

نعود إلى نفس المشهد ولكن من زاوية (إمام المسجد) الذي لم يتجاوز أول العشرينات من عمره، وكيف بدأ الإمامة عن طريق شفاعة والده إذ لم يجد وظيفة حتى الآن، ويريد مكافأة تساعده على الحياة، والشاب حافظ لكثير من القرآن، ووالده له علاقة جيدة بمنسوبي الشؤون الإسلامية، فيمنحون ابنه مسجدا اختلف جماعته مع الإمام القديم الذي يتغيب كثيرا عن إمامتهم، فيأتي الشاب كإمام جمعة وجماعة، ويبدأ في أول خطبة له مرتبكا خائفا لا يرفع رأسه ملتزما بالخطب المدونة في كتب يجدها في المكتبات تختصر له الجهد، يقص منها ما يسد ضرورات الجمعة، وتكر الأيام والأسابيع والأشهر في الخطابة، لنراه وقد تحول إلى شخص آخر، إذ يدرك الإمكانات الهائلة لهذا المنبر تحت يده، فيتحول من خائف مرتبك إلى مستبد متعدد الأدوار، فيبدأ أدواره كمصلح اجتماعي لجماعة المسجد، ثم مصلح أسري مطلع على أسرار بيوت جماعة المسجد، وهو لم يستطع الزواج حتى تلك اللحظة، ثم يكبر قليلا ليتحول إلى مفتٍ، ثم فجأة يتحول إلى صاحب كرامات، وكل رصيده المعرفي لا يتجاوز مذاكراته في كتيبات ومنشورات صغيرة يوزعها هنا وهناك بغير علم الشؤون الإسلامية، طبعا يكبر هذا الشخص وتكبر مواهبه في الهيمنة الاجتماعية على الناس، حتى تسمع صوته الهامس في أول خطبة له، وقد تحول مع السنين إلى زمجرة بأوامر ونواهٍ وقطعيات يقطع بها ظهور المستمعين على قلة فقه وضيق أفق.

نعود إلى الأطفال الذين يرافقون آباءهم إلى سماع الخطبة طيلة سنوات عمرهم الطري، وكيف يتكرس بداخلهم أن هذا الخطيب الواقف على المنبر فوق رؤوسهم ورؤوس آبائهم هو أعلم أهل الأرض، وأن هذه الهيئة هي الهيئة الوحيدة لمن أراد أن يكون قدوة للناس، وأن والده رغم كل ما حققه في الحياة من نجاحات لا تساوي شيئا بجوار هذا الهيكل والشكل الخاص المختلف عن عموم الناس.

عندما يكبر أطفال الحي قد يستطيع النابهون منهم تجاوز ما تكرس في دواخلهم تجاه هذا الشكل من خوف وتقديس يتجاوز احترامهم آباءهم، وقد لا يتجاوزه الأغلبية طيلة أعمارهم مهما تنوعت معارفهم وتجاربهم لتظهر فيهم ظاهرة (أحب الصالحين ولست منهم)، فيعجزوا عن فهم معنى الصلاح والقدوة كسمو أخلاقي قد نجده في المهاتما غاندي والأم تيريزا ولا نجده في البغدادي والزرقاوي والملا عمر، فنرى في هذه الفئة من يعربد، ثم يثور على ماضيه بتغيير شكله وحفظ بعض الرقائق، دون أن يدركوا أن التغيير الحقيقي هو في تحقيق إنجازات حياتية تخصهم وتقطع علاقتهم بالماضي، دون أن يكون مفهوم التوبة مختصا بشكليات تبحث عن الغفران الاجتماعي بين الناس، فيظهر لنا من هذه التشكلات من يعظ الناس ويرشدهم ويقتل ابنته أثناء ذلك ثم يخرج من السجن ليواصل ما كان عليه من مواعظ وإرشاد دون أن يتغير في تكوينه الوجداني العميق أي شيء، ليبقى إمام المسجد هو محور الحي الذي يتسيده ويهيمن على كل النشاطات فيه، فيمارس دور الطبيب بوصفاته الشعبية، ويمارس دور شيخ القبيلة في فض النزاعات العشائرية، ويمارس دور عالم الاجتماع في تحليل التغيرات الاجتماعية، ويمارس دور السياسي في توجيه الرأي العام، ويمارس دور الخاطبة للعوانس والأرامل والمطلقات، ويمارس دور المثقف في النقد الاجتماعي، ويمارس دور المعلم في التوجيه التربوي، ويمارس دور الشريطي لشراء السيارات وبيعها، ويمارس دور صاحب مكتب العقار في شراء الأراضي والسمسرة عليها، ويمارس دور مصلحة الزكاة والدخل لجمع الزكاة ليحدد المحتاجين وفق توجهاته الخاصة، ويمارس دور وزارة الداخلية في تحديد الفئات الضالة من المجتمع -حسب هواه الخاص-لمحاربتها والدعاء عليها، ويمارس ويمارس، لتصبح إمامة المسجد قضية إشكالية تحتكر الفعل الاجتماعي وتقصي بالوعيد من يتعدى على سلطتها وفاعليتها، احتاجت معها وزارة الشؤون الإسلامية إلى ضبط وربط، وصل إلى الفصل لبعض الأئمة.

يبقى أن نشكر المؤذنين وجماعة المسجد ومراقبي المساجد على كل ما يقومون به من تهذيب لدور الإمام، وتعرية حقيقته إن لزم الأمر للشؤون الإسلامية إن لم يكن كفؤا كما يجب في الانضباط أو تجاوز حدوده، أما أطفالنا فيجب علينا أن نشرح لهم حقيقة إمام المسجد في حدود مهمته التي ابتدأها بشفاعة الطيبين من الكرماء لتقوم بالأود وتزيد الدخل، فتصبح مع الوقت مناطا لنشر ما يهدم المجتمع أو يضربه ببعضه دون وعي، وأعان الله الشؤون الإسلامية على ما تقوم به من جهود في ترشيد ما كان متروكا للشفاعات وكرم الواسطات للأصدقاء والأقارب وكثير من الحزبيين.