سطام المقرن- الوطن السعودية-
يعترف فقهاء الإسلام اليوم بالاختلاف في مسألة تكافؤ النسب كشرط أساسي لصحة الزواج، ويقولون إن علماء المسلمين في الماضي ذهبوا في اعتبار الكفاءة في النسب على أقوال مختلفة، فمنهم من يقول إنه "لا اعتبار في النسب"، ومنهم من يقول "إن الكفاءة في النسب شرط لصحة النكاح"، وهناك قول وسط يرى أن "الكفاءة حق للزوجة والأولياء، فإذا أسقطوه فلهم ذلك والنكاح صحيح، وهذا مذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية والشافعية، وهو المعتمد عند الحنابلة".
ورغم اختلاف الفقهاء في مسألة كفاءة النسب، إلا أن الاتجاه السائد يرى أن هذه المسألة أساسية في شرط صحة الزواج، ويستدلون على ذلك بالقول: إن الإمام أبا حنيفة "رحمه الله" يعتبر "النسب ضمن الكفاءة في النكاح، فيرى أن الفارسي ليس كفؤا للعربية"، كما يستدلون بحديث النبي، صلى الله عليه وسلم، "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"، وما رواه أيضا الحاكم عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض، إلا حائك أو حجام".
ورغم أن الروايات السابقة ليست لها علاقة مباشرة في اشتراط الكفاءة في النسب شرطا أساسيا لصحة الزواج، ورغم وجود أدلة واضحة وصريحة من القرآن والسنة تؤكد على المساواة بين البشر، وأن معايير التفاضل هي التقوى والأخلاق كما قال الله تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وفي الحديث: "إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه"، إلا أن فقهاء اليوم حاولوا تبرير شرط الكفاءة بالقول إن من "حكمة الشريعة الإسلامية أنها تراعي المصالح وتدفع المفاسد، فإذا كبرت المفسدة وعظمت، وقلت المصلحة وصغرت، دفعت المفسدة الكبرى بترك المصلحة الصغرى"، أي أن اعتبار النسب في نظر الفقهاء فيه دفع الضرر عن المرأة وأوليائها لما يلحقهم من العار!، واعتبار الأنساب واقعا فرض نفسه، فينبغي أن يكون علاجه بشيء من الصبر وتوعية الناس.
والغريب في هذه القضية، أن اشتراط كفاءة النسب في صحة الزواج لا تكون إلا مع النساء دون الرجال، فلو أن الرجل تزوج من امرأة أقل منه نسبا وحسبا في عرف المجتمع فلا إشكال في ذلك، وليس هناك ضرر على الرجل ولا يشترط كفاءة النسب، ولكن إذا كان العكس مع المرأة فتلك الطامة الكبرى!.
للأسف، نجد في بعض الموروث الفقهي أحكاما وفتاوى وتفاسير تضع المرأة في مكانة دونية وأقل من الرجل، وهي منبثقة في الحقيقة من عقلية المجتمع الذي استمد منه بعض الفقهاء اجتهادهم، ثم تكونت وتشكلت ذهنيتهم وتصورهم عن المرأة، وبالتالي أصدروا أحكاما فقهية تتناسب مع تصورهم الذهني المسبق عن المرأة، ومن واقع ثقافتهم ومجتمعهم الذي عاشوا فيه.
وفقهاء اليوم مجرد مقلدين وتابعين لتلك الأحكام المنبثقة من الثقافة الذكورية للفقهاء التقليديين، وليس هذا وحسب، بل يرون أن مسألة الكفاءة في الزواج ليس مردها إلى الأهواء والشهوات والنعرات الجاهلية، بل المرجع في ذلك كما يقولون إلى الشريعة الإسلامية الغراء!، والحقيقة أن مرجعهم في ذلك أقوال الفقهاء القدامى وفهمهم البشري للنصوص الدينية والمتأثرة بالثقافة الذكورية للمجتمع، والمستندة إلى العادات والتقاليد، وأصبغ عليها الصبغة الدينية، فاعتبروا الكفاءة في النسب حججا من الشرع والمعنى يركنون إليها ويعتمدون عليها.
والأخطر من ذلك كله، هو إهمال حق المرأة كإنسان في اختيار شريك حياتها، ورضا وقبول المرأة بالزوج هو أهم شرط في صحة الزواج، وهذا ما منحته الشريعة الإسلامية للمرأة من حرية الاختيار، والولي لا يملك حق الإلزام والإجبار، وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما "أن جارية بكرا أتت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم"، وهذا دليل واضح وصريح على حق المرأة في اختيار زوجها برضاها، كحق أصيل وفطري لها كإنسانة، وبالتالي ليس لأحد الحق في الاعتراض أو فسخ زواجها.
ينص إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على عدم إمكان تحقق الزواج إلا بموافقة المقدمين على الزواج موافقة حرة كاملة، والشريعة الإسلامية تحمي حرية المرأة في اختيار شريك حياتها بنفسها، ولا يحق لكائن من كان فسخ هذا الزواج الشرعي حتى لو كان الولي، وفقهاء الإسلام يعترفون بذلك في مسألة العضل ضد الولي، إذ تنقل الولاية إلى من يليه من الأولياء حتى تصل إلى القاضي، كوسيلة وطريقة قانونية لحماية حق المرأة في الاختيار، ولكن واقع الأمر أن النصوص الدينية تخضع لتفسيرات ذكورية لا تملك بعض النساء الحق في اختيار الزوج، ويرغمن على الخضوع للولي أو الوصي لعقد الزواج أو فسخه نيابة عنهن.
إذا كان بعض الفقهاء اليوم يرون أن يتجه العلماء ورجال الإعلام والتعليم إلى بث الوعي بين الناس، وتأصيل مبدأ المساواة الإنسانية، وإعداد حملة توعوية تنبذ الكراهية والتمييز العنصري، والتعلق بالأخلاق الجاهلية والعصبية القبلية، فإن هذا اقتراح في محله ومطلوب، ولكن متى نرى النظرة الإنسانية إلى المرأة وإقرار حقوقها الفطرية في الخطاب الديني السائد؟.