عيسى الغيث- الوطن السعودية-
الاحتساب على ضلال بعض المحتسبين هو من الفرائض الغائبة اليوم، فهناك من يستغل الاحتساب لصراعات سياسية، وهناك من يوظفه لمصارعات حزبية، وثالث يستغله لتصفية حسابات شخصية
الحسبة عمل مشروع، والاحتساب فعل ممدوح، والمحتسب رجل محمود، وجميعنا ممن يسارع للاحتساب فيما يقوله ويفعله ويتركه، ولا نحتاج للحديث هنا عن فضل الحسبة وفضائل الاحتساب، فهذا مما يعرف ويذكر ويستذكر، ولكن واجبنا أن نذكر المسكوت عنه في هذا الباب، سواء في احتساب مذموم أو معدوم، فالأول يجب تركه والثاني يجب فعله، وكل هذا يدور على (المكلف) الذي يحتسب لله تعالى في أقواله وأفعاله.
ومما يجب التنبيه إليه أن كتابتنا هنا تعد نوعا من الاحتساب لله تعالى، فننقد الفعل وننصح الفاعل، ولكن بسنة (ما بال أقوام)، ومن أهم الأمور المغفول عنها في الاحتساب ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الاحتساب على موضوع لا يجوز فيه الاحتساب، كمن ينكر على غيره ما لم يثبت عليه، أو ينكر عليه في محل الخلاف والاجتهاد السائغ، وبالتالي فهذا تعدٍّ على حقه في الاجتهاد أو التقليد، ولذا قال الإمام السيوطي -رحمه الله- في الأشباه والنظائر 158: ((القاعدة الخامسة والثلاثون: لا يُنكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع على تحريمه))، كما أنه لا يسوغ دعوى الإجماع في غالب المسائل، لكون الإجماع فيها غير صحيح، ومما يلحظ على كثير من طلبة العلم ومتفقهة زماننا والمتطفلين عليه وقطاع طريقه أنهم يزعمون الإجماع في كل مسألة يرون رجحان رأيهم فيها، وهذا من الافتئات على العلم والتحكم على العلماء، وعلامة على الجهل والتعالم، وعند تسويغ الاحتساب فيجب أن يكون بعلم لا جهل، وبعدل لا ظلم، وبأدب لا إسفاف.
المسألة الثانية: الاحتساب على موضوع يجوز فيه الاحتساب ولكن يجاهر فيه مما يظهر معنى المراءاة للمحتسب والفضيحة للمحتسب عليه، ومن كان هذا فعله فإن الاحتساب هو في الإنكار عليه لا على من احتسب عليه، فالمنكر لا ينكر بمنكر ولو مساويا له في القدر، فكيف إذا كان يتسبب في بقائه وربما استفحاله أو مجيء منكر أكبر منه وإشاعة الفاحشة به، ولذا فلا يمكننا قبول الاحتساب العلني على رؤوس الأشهاد، وكأنه يسوق لنفسه بمراءاة وينتصر لها على الآخر، فهذا هو المنكر بذاته.
المسألة الثالثة: أن يكون المحتسب قد احتسب في أمر يجوز فيه الاحتساب، وبطريقة مشروعة، ولكنه لا يريد بها وجه الله وإنما الارتزاق بطلب مقابل مادي من العامل لمصلحته، أو مقابل معنوي كالشهرة وطلب الرئاسة والتصدر.
وحينما تجتمع في المحتسب المخالفات الثلاث بحيث ينكر ما لم يثبت أو ما لم يعد منكرا، ويكون بطريقة غير مشروعة، وبنية فاسدة وقصد دنيوي، فهذه ظلمات بعضها فوق بعض، وهذا مما بليت به بيئتنا في السنوات الأخيرة، فتم تدنيس الاحتساب المشروع من لدن رجال لهم أجندات شخصية أو حزبية أو فئوية، فتراهم يطبقون واقع (كلمة حق أريد بها باطل)، وأحيانا يكون حالهم بواقع (كلمة باطل أريد بها باطل)، وأما إن كان واقعهم (كلمة باطل أريد بها حق) فهذا من جهل أو حماس متطرف، ولا احتساب إلا في واقع (كلمة حق أريد بها حق) وبطريقة حقة، وهذا هو الاحتساب القليل النادر في عصرنا للأسف الشديد، لأن سوق المزايدات والمراءاة وتجميع الأتباع والاصطفافات الباطلة دنست المقدس.
وعلى ذلك فيجب علينا المسارعة والمنافسة في الاحتساب على هذا النوع من الاحتساب الباطل الضال، والأقربون أولى بالمعروف، وديننا عزيز، وشريعتنا لا نقبل المساومة عليها، ولكن يجب ألا نرضخ لتجار الدين بالدنيا ولو كانت مظاهرهم تضلل المتابعين، والعبرة بالمخابر، ولا يقبل الله إلا الصائب الخالص، وأما الخاطئ أو المرائي فضلا عن اجتماعهما معا فلا كرامة له، ولا يجوز السكوت عليه كائنا من كان، فحقوق العباد قائمة على المشاحة في حين أن حق الله قائم على المسامحة.
وختاما نؤكد على أن الاحتساب على ضلال بعض المحتسبين هو من الفرائض الغائبة اليوم، فهناك من يستغل الاحتساب لصراعات سياسية، وهناك من يوظفه لمصارعات حزبية، وثالث يستغله لتصفية حسابات شخصية، وكل هؤلاء يزعمون الطهر والنقاء، وهم الدنس والشقاء، فكم من عرض نالوه، وكم من فتنة أثاروها، وكم من شعيرة عطلوها، وكم من حق اعتدوا عليه، ولذا فعلينا مناصرة المحتسبين المخلصين ومقاومة المرتزقة، وعدم الحرج من ذلك ولو نالنا في دنيانا ما نالنا من أذى، فالله هو القصد دون سواه، ولا مجاملة لأحد أو خوف منه على حساب ديننا وحقوقنا، وما نراه اليوم من ثورة معلوماتية، عبر الإنترنت عموما ومواقع التواصل الاجتماعي خصوصا، يجعلنا نؤكد على هذا الموضوع وعدم السكوت عليه، والمسارعة باستنكاره والاحتساب عليه.