عبّاس البحرانيّ- خاص راصد الخليج-
أراد حاكم البحرين «حمد بن عيسى آل خليفة» من زيارته الأخيرة لمصر، والتي تميزت بجدول مكثّف ومتنوّع، من لقاءات بدأت مع الرئيس المصريّ «السيسي» الذي منحه وسام «قلادة النيل»، وهو أعلى وسام مصريّ، إلى زيارة مشيخة الأزهر ونيافة بابا الكنيسة القبطيّة، وتفقّد منتجعات شرم الشيخ، زيارة أراد لها أن تملأ الدنيا ضجيجًا، وأن تتحدّث عنها وسائل الإعلام والفضائيات العالميّة والصحف الكبرى، وتُعقد، لأجل مناقشة تداعياتها الهامة، المنتديات السياسيّة والحوارات الفكريّة والتداولات الاقتصاديّة؛ لعلّ ذلك يعوّض شيئًا من الانهيار النفسيّ، ويشبع غرور الذات ، فلا جمهور بقي ليصفّق له ويزغرد لاستقباله في شوارع البحرين كما حصل في بداية عهده، ولا مهرجانات شعبيّة تقام في البلدات المسحوقة والقرى الفقيرة لإلقاء المديح والثناء بمحضره «الملكيّ».
صاحَبَ الزيارة «الملكيّة» حملة بروباغندا كبيرة مارستها الماكينة الإعلاميّة للسلطة الحاكمة البحرانية على نطاق واسع جدًا، حيث عُمل فيها على تغطية أدق تفاصيلها وخطواتها، حتى ممارسة «حمد» وابنيه رياضة السباحة على شواطئ شرم الشيخ، جرت مواكبتها، بل نشرت صور حيّة لهم، وهو ما يعدّ خرقًا للدبلوماسيّة المعهودة في العلاقات الدوليّة وزيارات الرؤوساء والملوك للدول الأخرى!
لكنّ زيارة الحاكم البحراني ومرافقيه لمصر، من حيث الشكل والمضمون، لم تخرج كليًّا عن دائرة البروتوكولات الرسميّة وحفلة العلاقات العامّة، ولم تحد عن الهدف المرسوم لها وهو محاولة تحسين الوجه الاستبداديّ الذي تميّز به عهد حمد، فهي من ناحية التوقيت تأتي في سياق «الحجّ السعوديّ – الخليجيّ» إلى أرض الكنانة، وتوثيق عرى محاولة الاستحواذ على القرار السياديّ المصريّ من خلال البترودولار الخليجيّ.
هذه الزيارة لزعيم خليجيّ إلى مصر تأتي ثالثة خلال 19 يومًا، بعد السعوديّ والإماراتيّ، فالأولى لم تكن لتبلغ الأهميّة السياسيّة الكبيرة أو تحصل على تغطية إعلاميّة واسعة، لولا الإعلان عن بناء جسر يربط بين السعوديّة ومصر بمباركة إسرائيليّة، وتخلّي مصر- رسميًّا- عن سيادتها على جزيرتي «تيران وصنافير» لصالح النظام السعوديّ. خطوتان خطفتا الأضواء الإعلاميّة بشكل بارز وقويّ، بل حرّكتا الشعب المصريّ.. !! حمد آل خليفة بدوره أراد خطوة بهذا الحجم حينما زار مصر، تجعله حديث الساعة ونجم الفضاء الإعلاميّ، ولكنّ مشكلته أنّه لا يملك المال السعوديّ – حيث بلغت قيمة الاتفاقيّات خلال زيارة الملك سلمان لمصر 25 مليار دولار لتمويل مشاريع ضخمة- ولا يملك مليارات الإماراتيّ – الذي قدّم 4 مليارات دولار دعمًا لمصر، فنظامه يعتاش أساسًا على فتات المال السعوديّ – الخليجيّ، ويصارع من أجل بقاء الدولة التي تتآكل منذ خمسة أعوام من جرّاء استمرار الثورة الشعبيّة من ناحية، والتراجع الاقتصاديّ الحادّ، وهروب المستثمرين للدول الخليجيّة المجاورة، وحاجة البحرين للاستدانة لتغطية عجزها في ظلّ تراجع أسعار النفظ، من ناحية أخرى.
فمن أين لـ«حمد» الأموال أو الاستثمارات الكبرى والصناعات البارزة التي قد يضيف من خلالها إضافة نوعيّة على الاقتصاد المصريّ، وينتشل أبناء الكنان من الفقر والجوع ؟!
ما كان للحاكم البحراني إلا أن يعلن قراره ببناء «30» مركزًا أزهريًّا في مختلف محافظات مصر، في خطوة أراد منها التلبّس بلباس الإيمان والتقوى!! وتعبيرًا عن دعمه السخي لرسالة الأزهر الشريف القائمة على الاعتدال والوسطيّة في نشر الدين الإسلاميّ، في وقت تغافل عن انخراط بعض جنود جيشه في صفوف التنظيم الإرهابيّ الأبرز عالميًّا « داعش»، كما حاول «حمد» أن يتناسى ما ارتكبه من اضطهاد دينيّ بشع في العام 2011 وبدعم من الجيش السعوديّ، حينما أمر جيشه والمليشيات بهدم نحو 40 مسجدًا وتسويتها بالإرض، وحرق بعض مزارات العلماء التأريخيّة والعريقة، ومحتوياتها من مصاحف قرآنيّة وكتب أدعية ، وتخريب عشرات المضائف وتكسيرها، ومنع إقامة الصلوات في المساجد والجوامع ومحاصرتها، والتضييق على الخطباء وعلماء الدين واعتقال بعضهم، وقمع الفعاليات الدينيّة والتعدّي على الأنشطة والشعائر بكافة أشكالها.
واللافت، أيضًا، في جدول زيارة حمد المتشعّب الاتجاهات والرسائل عدم إدراج «ميدان التحرير» وسط القاهرة به، كي لا يكون أوّل حاكم «عربيّ» يشهد على الميدان الذي أسقط رفيق الدرب «مبارك»، وكي لا تقترن صوره الذهنيّة مع الذكرى «السيّئة» لميدان اللؤلؤة وسط المنامة، الذي هدمه وجرفه كي تُمسح هذه الذاكرة «السيّئة» من الجغرافيا والتأريخ.
ما حقّقه حمد من زيارته لمصر هو مجرّد بهرجة إعلاميّة وعلاقات عامة وصور تذكاريّة، وتجميل للوحة الاستبداديّة، وغطاء إعلاميّ لما يجري على أرض الواقع في البحرين، واستثمار منصّة مصر الرسميّة لتجديد الخطاب البالي في ان الازمة البحرينية هي ازمة خارجية ليست داخلية في وقت بات العالم كله يعلم انه ان صح الحديث عن تدخلات خارجية فهي بلا شك التدخلات السعودية التي وصلت حد الصلافة في سلب القرار السيادي.